التحقيقات الإدارية في دوائر الدولة ... سوء الإدارة وعقدة القيادة - المرشد القانوني

التحقيقات الإدارية في دوائر الدولة ... سوء الإدارة وعقدة القيادة

🖊 بقلم الدكتور أحمد طلال عبد الحميد البدري

في ظل شيوع ظاهرة الافراط في تشكيل اللجان التحقيقية لأغراض منبته الصلة عن الصالح العام، وفي ظل شيوع عرف إداري اعتبره فاسداً لدى الرؤساء الإداريين يتمثل بحتمية اقتران الأمر الصادر بتشكيل لجنه تحقيقية بمقصرية الموظف حتماً وفرض عقوبة انضباطية بحقه حتماً خلافاً لمفهوم التحقيق وهو اجراء إداري يهدف إلى كشف الحقائق ولايعني بالضرورة التوصل إلى مقصرية الموظف المحال إلى التحقيق، بل على العكس يمكن أن يكون التحقيق الإداري وسيلة لإثبات براءة أو عدم مقصرية الموظف المحال للتحقيق، إلا أن هذا العرف الفاسد أخذ يتغلغل بمفاصل الدولة كالنار في الهشيم والسبب يرجع إلى سوء اختيار القيادات الإدارية والتي تفتقر للخبرة والكفاءة ولم تتدرج في العمل الوظيفي وإنما وجدت نفسها فجأة في قمة الهرم الإداري، والادانة المسبقة للموظف المحال للتحقيق بناءً على خلفيته الاجتماعية أو السياسية، والرغبة في اقصاء الكوادر الكفوءة التي تشكل خطراً على القيادات الإدارية الطارئة التي وصلت لمراكزها عن طريق المحاصصة السياسية وليس الكفاءة والاستحقاق، وحتى تباشر الجهة المختصة بالتحقيق الإداري اجراءاتها بصورة مشروعة وموافقة للقانون لابد أن ينطبق عليها جملة من المعايير التي تعد ضمانة للموظف المحال إلى التحقيق، اتجاه السلطات المخولة لجهة التحقيق بموجب القوانين، وهي في ذات الوقت تعد مؤشر لسلامة اجراءات جهة التحقيق وهذه المعايير نوجزها بالآتي :

1- استقلال جهة التحقيق: ويقصد بهذا المعيار إمكانية قيام جهة التحقيق الإداري باعمال التحقيق بشكل مستقل عن سلطة الاتهام للحيلولة دون الخضوع للضغوط والمساوامات على نتائج التحقيق، ويلاحظ أن هذا المعيار صعب التحقق في نظام التأديب الرئاسي لأن في الغالب تكون جهة التحقيق تابعة للجهة الرئاسية التي أمرت بالتحقيق الإداري ومؤلفة من موظفين تابعين لهذه الجهة الرئاسية ويتم انتقائهم من قبلها، وبالتالي يتعذر تحقيق معيار الاستقلالية لوجود الارتباط العضوي والوظيفي بين الرئيس الإداري والجهة القائمة بالتحقيق، كما هو الحال في القانون العراقي، حيث تبقى اللجنة التحقيقية خاضعة للسلطة الرئاسية ورغباتها واتجاهاتها ونلاحظ تدخل العوامل الشخصية في عملية التحقيق الإداري، وهذا من شأنه أن يجعل اللجنة التحقيقية مجرد أداة طيعة بيد السلطة الرئاسية ونادراً ما ترفض اللجنة التحقيقية توجيهات الرئيس الإداري الذي يتحكم بمجريات التحقيق عن بعد، إذ أن من معايير جودة التحقيق الإداري استقلال المحقق الإداري عن السلطة التنفيذية كما هو الحال في عمل النيابة الإدارية في مصر، كما أن من أفضل جهات التحقيق الإداري عالمياً ما يسمى بالامبودسمان (المحقق البرلماني) أو يطلق عليه تسمية (متلقي الشكاوي) باعتباره فرع من فروع الرقابة التلقائية الإدارية الذي يستند الى التظلم ويهدف إلى حماية المواطن من تعسف وسوء الإدارة، حيث يعد نظام الامبودسمان صمام الامان العام (Public safety valve) ضد سوء ادارة، فالنظام الجيد للإدارة يجب أن يكون مسؤولاً ومتجاوباً، حيث يعد هذا الجهاز معياراً أساسياً لأي حكومة ديمقراطية في العالم الحديث والمتطور، حيث يطلق على لفظ (ombudsman) تسمية مفوض الشعب أو ممثل الشعب ويعود ولادة هذا النظام إلى عام 1809م في السويد وفي عام 1917 أطلق على هذا النظام في السويد (مستشار العدالة) وهذا النظام أشبه بوظيفة ولاية المظالم التي كان الخليفة يرأس وظيفة صاحب المظالم ثم تطورت هذه الوظيفة في العهد العباسي لتكون سلطة مستقلة عن سلطة الخلافة وعرفت بـ (ديوان المظالم).

2- حيدة سلطة التحقيق: تعتبر الحيدة من أهم معايير جودة التحقيق الإداري ومن أهم الضمانات في كافة مراحل العملية التأديبية، وتعني الحيدة عدم التحيز والتجرد من كل ميول شخصية أزاء من يجري التحقيق معهم، كما يميز البعض بين الحياد والتحيز، فالحياد يعني أن يقف القاضي أو المحقق موقف الحكم وأن يزن المصالح القانونية للخصوم بالعدل، في حين أن التحيز يعني وقوف القاضي أو المحقق مع أحد أطراف القضية وهذا يتعارض مع مبدأ الانصاف والموضوعية في المساواة بين الخصوم، والحيدة كضمانة من ضمانات التأديب في مجال الوظيفة العامة تتحقق بتدخل المشرع لتنظيم قواعد الاختصاص بشكل دقيق وواضح بما يؤمن عدم الجمع بين أعمال التحقيق والاتهام وسلطة توقيع الجزاء وعدم صلاحية من تحيط به اعتبارات شخصية أو وظيفية أو موضوعية تشكك في حيدته وتجرده ومن ثم إمكانية رده إذا ما انحرف في استخدام سلطته.
ويعتبر (الرد) الوسيلة المباشرة لكفالة ضمانة الحيدة وهذه الوسيلة يمكن تطبيقها في الأنظمة القضائية وشبه القضائية، إذ بإمكان الموظف طلب رد أحد اعضاء مجلس التأديب أو المحكمة التأديبية المختصة كما هو الحال في مصر كما نصت على ذلك المادة (53) من قانون مجلس الدولة المصري رقم (47) لسنة 1972، وإلى جانب الرد كوسيلة من وسائل ضمانة الحيدة في مرحلة المحاكمة توجد وسائل أخرى كعدم صلاحية القاضي للنظر بالدعوى المنظورة أمامه وامكانية التنحي الجوازي عن نظر الدعوى إضافة لقواعد مخاصمة القضاة، أما في نظام التأديب الرئاسي كما هو الحال في العراق فلا يمكن تطبيق قواعد رد اعضاء اللجنة التحقيقية بسبب غياب النص التشريعي الذي يمكن الموظف المحال إلى التحقيق من طلب رد أحد أعضاء اللجنة التحقيقية لوجود خصومة أو عداوة أو قرابة مع هذا الموظف أو محاباة أو انحياز أو خلاف سياسي أو عقائدي، وكل ما يمكن الدفع به لاحقاً أمام القضاء الإداري هو عيب اساءة استعمال السلطة أو الانحراف في استعمالها وبذلك يفقد الموظف المحال إلى التحقيق الإداري أحد ضماناته في مرحلة التحقيق، ويلاحظ أن المشرع العراقي بالرغم من كونه قد نص في المادة (15/خامساً) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل على سريان قانون أصول المحاكمات الجزائية على اجراءات محكمة قضاء الموظفين عند النظر في الطعونات الواردة على العقوبات الانضباطية وبما يتلائم وأحكام قانون انضباط موظفي الدولة، إلا أن قانون أصول المحاكمات الجزائية ذاته لم يتضمن نص بشأن مخاصمة القضاة (الشكوى من القضاة) أو رد القضاة الجوازي أو الوجوبي، وهذا يقتضي أن ترجع محكمة قضاء الموظفين للقواعد العامة في هذا الشأن الوارد في قانون المرافعات المدنية المواد (91) و(93) و(94) و(286) من قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 المعدل باعتبار أن القانون الأخير هو المرجع لكافة قوانين المرافعات والإجراءات إذا لم يكن فيها نص يتعارض معه صراحة استناداً للمادة (1) منه ، ومن مظاهر عدم الحيدة إبداء الرأي المسبق في الواقعة محل التحقيق الإداري، أو تولي طالب الشكوى التحقيق في المخالفة الإدارية بنفسه، أو تعريض الموظف المخالف لنوع من الضغوطات النفسية أو المعنوية أو اجراء التحقيق من قبل لجنة تحقيقية مؤلفة من موظفين أقل قدماً منه أو على خلاف شخصي أو مهني معه، أو عدم تمكين الموظف من الدفاع عن نفسه أو تقديم الأدلة والوثائق التي تنفي التهمة عنه، أو تضليل صفة الموظف في التحقيق فتدون أقواله باعتباره شاهد ويتم تقصيره ومجازاته تأديبياً كمخالف دون اشعاره أو إعادة تدوين أقواله كموظف مخالف أو متهم بأرتكاب جريمة تأديبية، أو ممارسة الضغوط على الموظف كالتهديد أو الوعيد أو بالتدخل لتخفيف العقوبة أو تغيير مجرى التحقيق، فلا تترك الحرية للموظف بالإجابة على النحو الذي يراه محققاً لمصلحته بحيث تكون إرداته الحرة قد اتجهت للإدلاء بتلك الأقوال، وكذلك من مظاهر عدم الحيدة أن يكون لأحد أعضاء اللجنة التحقيقية التي تتولى تحقيق مصلحة أو شبهة مصلحة في العمل الذي يؤديه، وأيضاً من مظاهر عدم الحيدة مخاطبة الموظف المحال إلى التحقيق بكونه متهم والتعامل معه على أساس ذلك قبل اكتمال التحقيق وثبوت المخالفة بحقه مما يعطي انطباع عن وجود قناعة مسبقة لدى هيئة التحقيق بالادانة، إذ وفقاً لمعيار المعاملة الحسنة الذي هو أحد مظاهر تمتع المحقق بالحيدة هو تنبيه اللجنة التحقيقية للموظف المخالف عن حقوقه وضماناته وموضوع التحقيق، وهذا المعيار يجد أساسه في مبدأ الأصل براءة الذمة والمتهم بريء حتى تثبت إدانته ورغم كون هذا المبدأ قد ورد في المادة (19/خامساً) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 التي نصت على أن (المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة)، ونصت الفقرة (السادسة) من هذه المادة على أن (لكل فرد الحق في أن يعامل معاملة عادلة في الاجراءات القضائية والإدارية)، إلا أن المشرع العراقي لم يتخذ التدابير التشريعية اللازمة لتفعيل هذا الحق وإلغاء النصوص التي من شأنها تقليل فاعليته، وهذا يعد إغفالاً تشريعياً من شأنه أن يحرك المسؤولية السياسية والقانونية للبرلمان، ولذلك نجد أن النظام الرئاسي في التأديب الذي اعتنقه المشرع العراقي في ظل الدستور السابق لم يعد متوائماً مع المبادئ الواردة في دستور 2005 التي تؤكد على الجوانب الديمقراطية والمشاركة والتمثيل، فالنظام الرئاسي يضعف ضمانة الموظف لأنه يفتقد  لضمانات الحيدة في مرحلة التحقيق الإداري بسبب غياب القواعد المنظمة لرد سلطة التحقيق أو طلب التنحي، كما أن جهة التحقيق تكون فاقدة لاستقلاليتها لأن الرئيس الإداري يملك سلطة توجيه الاتهام وتكييف الخطأ وإصدار العقوبات الانضباطية، وهذا يخل بالتوازن لصالح السلطة الرئاسية بما تملكه من سلطة تقديرية واسعة، ولذلك نجد أن النظام شبه القضائي وهو المتبع في هولندا وايطالية ولكسمبورج والمغرب يحقق العدالة والموازنة بين فاعلية الإدارة والضمان لأنه يوفر الضمانات الكافية دون الاخلال بسلطات الرئيس، إذ بالإمكان أن يوكل الاختصاص الانضباطي للسلطة الرئاسية في إيقاع العقوبات البسيطة (كلفت النظر، الانذار، قطع الراتب) مباشرة مع وجوب أخذ رأي هيئات أستشارية قبل فرضها حتى وإن كان رأيها غير ملزم يكون الموظف ممثلاً فيها للحد من اندفاع الإدارة وتعسفها، أما العقوبات الانضباطية الأكثر جسامة (التوبيخ، انقاص الراتب، تنزيل الدرجة) التي تؤثر على المركز المالي والوظيفي للموظف فنرى أن يوكل اختصاص فرضها إلى مجالس تأديب مشكلة من عناصر إدارية مستقلة عن الإدارة المباشرة للموظف المخالف وتتولى فرض العقوبات الانضباطية مباشرة وبصورة نهائية دون الرجوع إلى أي جهة لأخذ رأيها ويكون قرار المجلس قابل للطعن فيه أمام القضاء على أن تنظم القواعد والاجراءات الخاصة بالمثول أمام مجالس التأديب وتوفير الحصانة لعمل هذه المجالس لضمان أداء أعمالها بصورة محايدة ونزيهة مع إمكانية تطبيق قواعد الرد والتنحي من أعضاء مجلس التأديب وينظم ذلك بموجب القانون.

أما العقوبات الانضباطية الشديدة (الفصل والعزل) فيفضل أن يوكل اختصاص فرضها إلى محاكم قضائية مشكلة من عناصر قضائية وإدارية يتم تحريك الإجراءات الانضباطية من قبل السلطات الرئاسية أو من قبل مجالس التأديب إذا تبين للمجلس إن العقوبة المستحق فرضها تدخل ضمن اختصاص المحاكم التأديبية ويتمتع الموظف بكافة الضمانات لتحقيق دفاعه ويكون قرار المحكمة التأديبية قابلاً للطعن فيه أمام القضاء الإداري.

3- الكفاءة والمهنية: يشترط فيمن يباشر التحقيق الإداري أن يكون ذا خبرة علمية وعملية في مجال التحقيق الإداري واصوله وقواعده وضماناته، إذ أن مجرد الخدمة الوظيفية الطويلة لا تعني بالضرورة الكفاءة والمهنية ولاسيما أن بعض الموظفين الإداريين أو القانونيين الذين يكلفون برئاسة وعضوية اللجان التحقيقية لم يمارسوا العمل الإداري الفعلي أو العمل القانوني الفعلي وهذا سبب أرباكاً في عملية التحقيق الإداري وتوصيات اللجان، وقد يكون عضو اللجنة القانوني غير كفوء أو قليل الخبرة أو حديث العهد بالعمل في مجال اللجان التحقيقية، وهذا أدى بالنتيجة إلى سيطرة الاعضاء الإداريين في اللجنة على سير ونتائج التحقيقات الإدارية بصورة غير مهنية وغير كفوءة وهذا يقتضي من المشرع العراقي على الأقل وضع قواعد تنظم اختيار العضو القانوني في اللجنة التحقيقية.

لما تقدم ندعو المشرع العراقي إلى تلافي مظاهر الاغفال التشريعي في قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل واستبدال نظام التأديب الرئاسي بنظام التأديب الشبه قضائي لتحقيق الموازنة بين فاعلية الإدارة وضمانات الموظف الخاضع للتاديب في ضوء شيوع ظاهرة حتمية اقتران تشكيل اللجنة التحقيقية بتوصيات بفرض عقوبات انضباطية والتعسف في استعمال السلطات الرئاسية لغايات منبته الصله عن الصالح العام ، والافراط في تشكيل اللجان التحقيقية، وتجاوز اهداف فرض العقوبة الانضباطية المتمثلة بردع الموظف المخالف وضمان استمرار سير المرفق العام بانتظام إلى غايات الانتقام والتصفية والاقصاء الوظيفي لأغراض المحاصصة السياسية أو لأغراض شخصية في شغل الوظائف العامة في ظل غياب تام لتنظيم تشريعي يؤمن استقلال اللجان التحقيقية التي تعاني من التبعية الإدارية وتبعية الرأي والتوصيات إلى الرئيس الإداري الأعلى مع غياب قواعد رد اعضاء اللجنة التحقيقية أو التشكي منهم وهذا يفقد الموظف ضمانة اساسية في مرحلة التحقيق الإداري.

اهلاً بكم في مدونة المرشد القانوني

نلفت أنظاركم إلى مستودع في غاية الأهمية على منصة التيليجرام علمًا هو متخصص بإرفاق المصادر القانونية من حيث المعاجم والكتب والمجلات والاطاريح والرسائل.

حسناً