ليس هناك من ينكر ضرورة العدل في حياة الناس، والقاضي هو الشخص الذي أناطت به الدولة مهمة تطبيق القانون الموضوعي والإجرائي في الدعاوى التي تعرض عليه بعد أن حصل على تأهيل قانوني كافِ لأداء المهام المنوطة به. وفي إطار المتغيرات الجنة التي أصابت القانون فقد حصل تغيير كبير وهادف في النظرة الأولى إلى دور القاضي في العملية القضائية في نطاق الدعوى المدنية نأى به عن الدور السلبي الذي كان يرسمه له الفكر القانوني الليبرالي ضمن منظورة للحق الخاص ودور القاضي إزاء النزاع الذي يثوره بصدده. فقد كان هذا الفقه يحدد للقاضي دورًا سلبيًا في العملية القضائية لأن الفقه الليبرالي وضمن منظوره عن الحق الخاص كان ينظر إلى الدعوى على أنها صراع متروك لمبادرة الخصوم والذي يحضره القاضي بدون أن يستطيع توجيهه ويمتنع على القاضي أية مبادرة أو إسهام فيه.
وعليه فإنه يبدو منطقيًا جدًا استنادًا إلى تبدل النظرة إلى الحق من فردي مطلق إلى حق له هدف يحققه في إطار النظرة الإجتماعية للقانون أن تتغير النظرة إلى دور القاضي في العملية القضائية وأن يتاح له أن يمارس دورًا فعالاً ومؤثرًا في إطار توجيهه الدعوى وما يتعلق بها من أدلة وصولاً إلى تحقيق العدل الناجز بناء على مرتكزين أساسين:
1- تقدير المشرع لأهمية وخطورة الدور الذي يقوم به القاضي فهو يضطلع بأهم مشكلة تهم الإنسان في حياته إلا وهي قضية العدل. وهو يسعى للوصول إلى تحقيقه في خضم صعب من العلاقات الإنسانية وهي حالة نزاع وفي هذا المجال يسود في التعامل بين أطراف النزاع أسوأ ما في النفس الإنسانية من خصال وحتى بالنسبة للشهود فإن هناك احتمالات متوقعة ومستديمة للتحيز.
2- إن عمل القاضي في تحقيق العدل الحقيقي وليس الشكلي يستدعي منه، وعلى المشرع أن يمكنه من ذلك ويسيره له، أن يمد يد المعونة إلى الأشخاص الذين يلجؤون إليه للدفاع عن حقوقهم والذين ليست لديهم الخبرة القانونية اللازمة أو الثروة الكافية مما يجعلهم في مركز غير متساوي مع خصومهم مما يؤثر على مركزهم في الدعوى، وتقول محكمة إستئناف بغداد بصفتها التمييزية في قرارها المرقم (9) في 1981/2/10 (على القاضي قبل إحالته عريضة الدعوى للرسم أن يرشد المدعية إلى تعديل أسم جدها في عنوانها المدون في عريضة الدعوى بحيث يتفق مع أسمه الذي طلبت تصحيح سجلات النفوس بموجبه).
إن منح هذه الإيجابية للقاضي يقوم على الثقه فيه، فليس شيء أبعد عن الصواب أكثر من أن يفترض في القاضي قلة الفهم والدراية والبعد عن طريق الحق فلا يترك له مجال للتفكير والتقدير فيما يعرض عليه من الأمور، كما أن الاختبار الواقعي قد دل على أن تقييد سلطة القاضي تقييدًا شديدًا في إدارة وتوجيه الدعوى لم يقرب أصحاب الحقوق من حقوقهم بل هو على العكس من ذلك قد أبعدهم عن الحق، وأوجد في المحيط القضائي ضروربًا من طرق التلاعب اللفظي جعلت بين الحق وصاحبه هو سيحقة وتركت القاضي آلة صماء تقضي بين الناس بلا روح ولا حس أو تفكير.
ومن المقرر بداهة أن معاملات الناس من التنوع والاختلاف بحيث يستحيل وضع قاعدة عامة ثابتة تهدي إلى معرفة الحق من الباطل، لأن ذلك مما يتجافى وطبيعة الأمور فلا مناص من أن تترك للقاضي حرية التبصر فيما ينظر فيه من القضايا فذلك أهدى للعدالة واقرب إلى معرفة الحق.
ثم ألا يكون من المنطق القانوني السليم بعد أن تطلبنا من القاضي توسيع أفق معارفه ألا نعطيه مثل هذا الدور الإيجابي. هذا مهم إذا تذكرنا أنمهمة القاضي هي نظر دعاوى لا تعرف حصرًا من حيث التنوع والتشعب والتعقيد, حيث يتناسب ذلك مع مؤشرات الارتقاء الحضاري لأي مجتمع الأمر الذي يستتبع التأكيد على أن دراسة كل دعوى بعمق وإمعان تبقى مبتورة ودون الحد الأدنى للعدل إن هو لم يحط بجوانبها المختلفة الإجتماعية والاقتصادية والنفسية. إن هذا العلم المستخدم في العمل القضائي لا تقتصر فائدته على حسم ما يعرف على القاضي من دعاوى بل وسيلة فعالة في إدامة حياة القانون وتطويره وإمداد واضع قانون المستقبل بقواعد أثبت التطبيق صلاحها, وفي هذا يقول الأستاذ (هنري كابيتان): (.... أقامت المحاكم شيئًا فشيئًا بناء خاصًا من القواعد القانونية وفقهًا يكمل ويثري العمل التشريعي ويعد له دون أن تخرج عن نطاق اختصاصها التفسيري ... وبغير هذه الثروة الدائمة من قضاء المحاكم وبفوات هذا الإنعاش المستمر الذي لا ينقطع تشيخ القوانين ويلحقها الذبول والجفاف، حتى أنها لن تنجو حين تكاد أن تلفظ النفس الأخير إلا بتأثير هذا الدم المتدفق وإلا بفضل التطوير المكمل لنصوصها المتأتي من الملاءمة كل يوم بينها وبين ما تحتاجه المعاملات القانونية).
إن الذي دفع القضاة لذلك هو أن المشرع حينما يضع قاعدة لحكم حالة معينة يكون في حالة معيارية عامة تنطبق عليها القاعدة القانونية، ولكن هنالك حالات تبتعد عن الحالة التي يمثلها النص القانوني. فمواقف الواقع لا تعرض على القاضي وهي تحمل لافتات كتب عليها تصنيفها القانوني. ولا تنتظر منه إلا أن يطالعها، بل هنالك مشاكل كثيرة تنتج عن إبتعاد الحالة الواقعية عن الحالة المعيارية، ولا بد للقاضي أن يواجه ذلك وهنا يبرز دوره المبدع. ولكي يكون الأمر كذلك لا بد هنا من التوسع لدور القاضي في توجيه الدعوى وحسن إدارتها واستكمال أدلتها وصولاً إلى الحكم العادل فيها.