لقد انتهجت الولايات المتحدة الأمريكية في نظامها القضائي ذات المنهج الذي اعتمده النظام الإنجليزي بصفة عامة فالمحاكم الأمريكية العادية تفصل في جميع المنازعات أيًا كانت طبيعتها. كما يأخذ النظام الأمريكي بمبدأ مسؤولية الموظف الشخصية عن الأضرار التي تلحق بالأفراد جراء تصرفاته, كما أن القاضي الأمريكي يتمتع بالسلطات واسعة ذاتها التي يتمتع بها القاضي الإنجليزي في مواجهة موظفي الإدارة, فيمتلك توجيه أوامر مكتوبة إلى الموظفين تتضمن أمرهم بفعل شيء أو الامتناع عن فعل شيء أو بتعديل قراراتهم التي أصدروها.
ومن الغريب أن يعتنق النظام الأمريكي مبدأ عدم مسؤولية الدولة الذي كان سائدًا في إنجلترا والذي يستند إلى قاعدة أن التاج أو الملك لا يخطئ في الوقت الذي تأخذ فيه الولايات المتحدة الأمريكية بالنظام الجمهوري. ويفسر البعض هذا التشابه الغريب بين النظامين بالاعتبارات التاريخية, إذ يعد مبدأ عدم مسؤولية التاج أو الملك من بين المبادئ التي ورثتها الولايات المتحدة عن القانون العرفي الإنجليزي منذ عهد الاستعمار.
ولم يكن هذا التشابه بين النظامين في اعتناق المبدأ المذكور فحسب, بل واجه النظام الأمريكي في مجال تقرير مسؤولية الدولة التطور نفسه الذي واجه النظام الإنجليزي. فكما تضاءل مبدأ عدم مسؤولية الدولة في إنجلترا بما ورد عليه من استثناءات, انتهت بالقضاء عليه بمقتضى قانون سنة 1947, فقد وردت على هذا المبدأ في الولايات المتحدة الأمريكية استثناءات مماثلة تخفف من حدته وتفتح الباب أمام الأفراد لمساءلة الدولة والحصول على التعويض عن الأضرار التي تلحقهم إما أمام المجالس النيابية, وإما أمام اللجان والهيئات الإدارية ذات الاختصاص القضائي, وإما أمام المحاكم ذاتها, وقد بلغت هذه الاستثناءات من الكثرة مبلغًا أدى إلى أن تطغى على القاعدة, وقد أدى هذا التطور إلى صدور قانون سنة 1946 والذي يعرف بالقانون الإتحادي لدعاوى (أو لطلبات), والذي تقررت بموجبة مسؤولية الدولة, والذي يعد نقطة تحول هامة وبداية مرحلة جديدة في مجال الرقابة القضائية على أعمال الإدارة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ويلاحظ أن المجالس النيابية كانت حتى قبل صدور القانون المذكور وما زالت تنظر في الدعاوى أو طلبات المسؤولية التي تتضمنها عرائض الأفراد التي تقدم إليها, بناءً على قوانين خاصة تقرر مسؤولية الدولة في حالات معينة, وتسمح بمقاضاتها بواسطة ما يقدمونه الأفراد لتلك المجالس من عرائض, ولذلك فإن هذه المسؤولية لا تتقرر بحكم قضائي وإنما تختص بتقريرها المجالس النيابية بإعتبارها لوحدها تستطيع أن تأمر الدولة بدفع مبلغ من المال, إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطات.
ويلاحظ على الوضع المتقدم أنه ينطوي على خلط واضح بين أمرين مستقلين, الأول تقرير الدين في ذمة الدولة, والثاني الأمر إلى الخزانة العامة بدفع هذا الدين, فالثاني وحده الذي يختص به البرلمان, أما تقرير المديونية فهو أمر يدخل بطبيعته في صميم الوظيفة القضائية, ولا تعد مباشرة المحاكم العادية له بالنسبة للدولة خرقًا لمبدا الفصل بين السلطات. وقد أدى هذا الخلط الذي وقع فيه القانون الأمريكي إلى حرمان المحاكم العادية من نظر دعاوى المسؤولية التي يرفعها الأفراد على الدولة, ومن ثم أصبح على الفرد الذي يدعي حقًا ماليًا قبل الدولة, كتعويض عن ضرر سببته له الإدارة أن يرفع الأمر في شكل عريضة إلى البرلمان. ونظرًا لتعذر فحص جميع الطلبات أو العرائض بصورة جدية, فقد أنشأت المجالس التشريعية بداخلها هيئات أطلق عليها محاكم الطلبات تقوم بفحص الطلبات وتقديم تقرير عنها إلى البرلمان, لكن هذه الهيئات بالرغم من تسميتها بالمحاكم وأن أعضائها يتمتعون ببعض امتيازات الهيئات القضائية, إلا أنها في الحقيقة ليست محاكم بالمعنى الصحيح لأن رأيها استشاري وأن ما يصدر عنها مجرد مقترحات تعرض على البرلمان ليصدر فيها قراره النهائي.
ومع ذلك فقد تحولت بعض المحاكم (محاكم الطلبات) في بعض الولايات من هيئات إستشارية إلى محاكم قضائية بالمعنى الصحيح, إذ منحت سلطة إصدار أحكام لا معقب عليها من أية جهة أخرى, لكن هذه المحاكم وإن كانت تفصل في منازعات إدارية كون الدولة طرفًا فيها, لا يمكن أن تعد محاكم إدارية مستقلة عن القضاء العادي, بل هي محاكم عادية لأن أحكامها قابلة للطعن فيها أمام المحاكم العليا التي توجد على رأس هيكل القضاء العادي في الولايات المختلفة.
فمحاكم الطلبات تعد هيئات استشارية تستعين بها المجالس التشريعية في بعض الولايات, وتعد محاكم حقيقة في البعض الآخر, ولكنها محاكم عادية وليست جهة قضاء إداري لأنها خاضعة من حيث الطعن في أحاكمها للمحاكم العليا التي تدخل في تكوين هيكل القضاء العادي في تلك الولايات.