تعد إنجلترا مهد النظام القضاء الموحد, فهي لا تعرف ازدواج القضاء القائم على وجود جهة قضاء إداري مستقلة إلى جانب القضاء العادي, بل تختص المحاكم العادية فيها بنظر جميع أنواع المنازعات سواء التي تنشأ بين الأفراد أو التي تنشأ بينهم وبين الإدارة, فلا يخرج نزاع إداري من اختصاص المحاكم العادية إلا بناءً على نص صريح في القانون.
ويستند النظام الإنجليزي في نهجه هذا (وحدانية النظام القضائي) إلى أسس واعتبارات خاصة به, فإلى جانب ما يراه أنصار النظام القضائي الموحد من أن إنشاء قضاء إداري إلى جانب القضاء من شأنه أن يعقد المهمة القضائية بسبب إشكالات تنازع الاختصاص وما يترتب عليها من إضاعة للجهد والوقت ويحمل الخزانة العامة نفقات لا مسوغ لها, فإن الثقة العالية التي يوليها الإنجليز لقضائهم تشكل هي الأخرى أهم الأسس التي قام عليها هذا القضاء, فالإنجليز يرون في قضائهم تجسيدًا لمبدأ سيادة القانون الذي يمثله هذا القضاء, فضلاً عن أن النظام القضائي الإنجليزي يقوم على تفسير لمبدأ الفصل بين السلطات يختلف عن التفسير الذي تبناه رجال الثورة الفرنسية, إذ يرى أن السلطة القضائية وجدت لحسم المنازعات القانونية, ولما كانت المنازعات الإدارية تحمل هي الأخرى الطابع نفسه, فلا توجد ضرورة تسوغ خلق قضاء إداري خاص يحد من ولاية القضاء العادي ويحصر هذه الولاية بمنازعات الأفراد فقط, ولا شك أن الإنجليز بتفسيرهم هذا لا يرمون حماية الإدارة من تدخل القضاء, وإنما تأكيد ولاية المحاكم العادية في الوظيفة القضائية بشكل عام.
مدى اختصاص المحاكم العادية الإنجليزية
كانت المحاكم العادية في إنجلترا تختص بنظر الدعاوى الموجهة ضد الموظفين بصفتهم الشخصية أو ضد الأشخاص المعنوية العامة الإقليمية أي الهيئات المحلية كالمدن والقرى, ولم تكن تختص بنظر الدعاوى الموجه ضد الدولة, أي أن القانون الإنجليزي كان يأخذ بمبدأ عدم مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها, وإنما يقرر مسؤولية الموظف شخصيًا وكان هذا المبدأ يفسر بقاعدة دستورية قديمة مفادها أن الملك لا يخطئ ولا يمكن من ثم تقرير مسؤوليتها عن أعمال موظفيها.
ومن جهة أخرى فإن الفقه القديم في إنجلترا يعتبر طبيعة العلاقة بين الموظف والدولة أنها علاقة تعاقدية تقوم على أساس فكرة الوكالة ولما كان الموكل لا يسأل عن أعمال وكيله إلا في حدود الوكالة, إذ لو تجاوزها كان الوكيل وحده هو المسؤول عن هذا التجاوز, وكذلك فإن الدولة لا تسأل عن أعمال موظفيها التي تتضمن أخطاءً تسبب ضررًا للغير لأن هذه الأعمال تعد خارجة عن حدود الوكالة.
ولكن مبدأ عدم مسؤولية الإدارة في إنجلترا لم يظل على إطلاقه القديم بل طرأ عليه تطور هام ووردت عليه استثناءات عدة خففت من حدته. فبينما كانت الدولة لا تسأل في نطاق الخطأ أصبحت تسأل في نطاق العقود أي أن مبدأ عدم مسؤوليتها أصبح قصرًا على دائرة المسؤولية التقصيرية. كذلك تقررت مسؤولية الإدارة عن أعمال الموظفين الذي يعملون في المصالح والإدارات التابعة للهيئات المحلية, على أساس أن عدم مسؤولية الدولة عن أعمال موظفي المصالح والإدارات المركزية إنما كان يستمد من عدم مسؤولية التاج, ولما ما يكن هنالك ارتباط عضوي وتبعية مباشرة بين التاج وهذه المصالح, وكان الموظف يلتزم بدفع التعويض من ذمته الخاصة, ومن ذلك فقد جرى العرف على أن تدفعه عنه الدولة لا على أساس أنها ملتزمة قانونًا به, بل من قبيل الشفقة والرحمة, وهذا العرف يدل في رأي البعض على مدى تمسك الإنجليز بتقاليدهم وحرصهم في نفس الوقت على التوفيق بينها وبين مقتضيات التطور بحيث تساير روح العصر الحديث.
كما أسهم القضاء الإنجليزي ذاته في التطور الذي لحق بمبدأ عدم مسؤولية الإدارة, وأتجه نحو تقرير مسؤولية الدولة بصفة تدريجية بمناسبة ما يعرض من قضايا, كما هو الحال بالنسبة لقضائه في قضية الباخرة (Zamora) سنة 1916, حيث قضى المجلس الخاص في قضية الباخرة بأن الحكومة ملزمة بتعويض الضرر الذي اصاب صاحب السفينة من جراء الإستيلاء غير المشروع على السفينة أثناء الحرب العالمية الأولى.
بل إن توجه القضاء الإنجليزي نحو تقرير مسؤولية الدولة لم يقف عن حدود المسؤولية التقصيرية على أساس الخطأ وإنما أمتد إلى تقرير مسؤوليتها على أساس المخاطر أو تحمل التبعة, كما هو الحال في قرار مجلس اللوردات في قضية شركة الفنادق سنة 1920, حيث قرر مجلس اللوردات في قضية شركة الفنادق التي استولت الحكومة على بعض فنادقها خلال الحرب العالمية الأولى, بأن الدولة ملزمة بتعويض الشركة, لأنه لا يجوز حرمان أحد من ملكه بغير مقابل, ولو أن الدولة لن تكن مخطئة في هذا الإستيلاء الذي إستهدفت به تحقيق مصلحة الدفاع.
وأخيرًا فقد حسم المشرع الإنجليزي من جهته تحديد آفاق تطور مسؤولية الإدارة بقانونه الصادر سنة 1947 والمسمى (The crown proceedings) والذي قرر فيه مسؤولية التاج بوصفه مبدأ عامًا وحدد حالات المسؤولية وأورد بعض القيود على تحقيقها, فأنهى بذلك الحصانة التي كان يتمتع بها التاج, ووضع مبدأ المسؤولية الإدارية مكان مبدأ عدم المسؤولية التقليدي.
سلطة القاضي الإنجليزي تجاه الإدارة
تباشر المحاكم الإنجليزية الرقابة على وحدات الإدارة العامة, وتخضع هذه الوحدات شأنها شأن الأفراد أو الهيئات الاخرى للقواعد القانونية ذاتها فيما يتعلق بهذه الرقابة, كما تملك المحاكم في مواجهة موظفي الإدارة سلطات واسعة وخطيرة, فهي تملك الحكم على الموظف بعقوبة جنائية إذا رأت أن فعله يكون جريمة جنائية, وتقضي على الإدارة بالتعويض إذا توافرت أركان المسؤولية, كما يملك القاضي الحق في توجيه أوامر مكتوبة إلى الموظفين تتضمن أمرهم بفعل شيء أو الامتناع عن عمل شيء, أو تعديل قراراتهم أو إلغائها كما يفعل الرئيس الإداري, فسلطة القضاء تختلط بسلطة الرئيس الإداري مما يؤدي إلى خضوع وتبعية الإدارة للقضاء, فضلاً عن ذلك فإن حدود سلطة القضاء في إنجلترا ودول القضاء الموحد تتعدى رقابة المشروعية إلى تقدير الملائمة, إذ يستطيع القاضي أن يأمر الموظف بأداء ما توجبه الآداب العامة أو الامتناع عن عمل ما هو غير منطقي أو غير لائق.
وهكذا يؤدي النظام الإنجليزي إلى خضوع وتبعية الإدارة للقضاء, مما حدا بالبعض إلى وصف الإدارة في إنجلترا بالإدارة القضائية, أي الإدارة الخاضعة لهيمنة القضاء.
على أن التطور السياسي والاقتصادي وما نتج عنه من ازدياد في نشاط الدولة واتساع مجالاته وتنوعها, قاد إلى بروز اتجاه في الفقه والقضاء الإنجليزيين يدعو إلى تبني فكرة الازدواج القضائي وإنشاء محاكم إدارية من أجل حماية الحقوق والحريات الفردية التي بدت مهددة جراء الاتساع المتزايد لسلطات الإدارة, عن طريق إصدار اللوائح التنفيذية للقوانين وعدها جزاءً من هذه القوانين ومن ثم تخرج عن رقابة القضاء. وقد نجحت هذه الدعوى وتكلل هذا النجاح بإنشاء محاكم إدارية متخصصة استجابة لمتطلبات الوظائف الجديدة للدولة, لتتولى حسم المنازعات التي تفرزها أنشطة الدولة المتعددة, فأنشأت محكمة للصناعة تقضي في المنازعات الخاصة بالتجارة والصناعة, التي تنشأ بين الإدارة والأفراد, ومحكمة لبراءات الاختراع وتنظر في التظلمات الخاصة بقرار منع أو رفض براءة اختراع, ومحكمة للمواصلات ومحكمة للضمان الاجتماعي وهكذا. وبالنظر لتعدد هذه المحاكم واختلاف أنظمتها بحسب قوانين إنشائها فقد نظمت أحكامها بقانون صدر سنة 1958.
إلا أن إنشاء هذه المحاكم الإدارية لا يعني بحال أنها تؤلف هيكلاً مستقبلاً وموازيًا لمحاكم النظام القضائي العام, بالشكل الذي ينقل النظام القضائي الإنجليزي من نظام القضاء الموحد إلى نظام القضاء المزدوج, فكل الذي يميز هذه المحاكم عن القضاء العادي هو أنها متخصصة بنوع معين من المنازعات القانونية طبقًا لقانون إنشاء كل منها, فضلاً عن أن معظم القرارات الصادرة عن هذه المحاكم والإجراءات المتبعة أمامها يخضع لرقابة لاحقة من القضاء العادي.