نظام القوة وآثاره كأحد الظواهر القانونية في العصور البدائية - المرشد القانوني

نظام القوة وآثاره كأحد الظواهر القانونية في العصور البدائية

لاشك بأن القانون بمعناه المعروف لدينا الآن لم يظهر في العصور الأولى من تاريخ البشرية، ولكن ذلك لا يعني بأن تلك الجماعات البدائية كانت تتمتع بحرية مطلقة ودون أية قيود قانونية، فالإنسان لا يستطيع ان يعيش في المجتمع بغير نمط قانوني يحكم سلوكه فيه. وقد تبين لنا من خلال معرفتنا لقصة ظهور الانسان على الأرض، بان القانون في أولى مظاهره بدأ مع ظهور الإنسان، فحين تتولى السلطة المختصة الآن في  وضع القوانين التي يلزم الناس على احترامها، نجد أن القواعد القانونية لدى الجماعات القطرية تتمثل بمجرد الإحساس  في وجود القانون، فالقانون لم يكن له كيان محسوس، وليس هناك شخص معين ينسب إليه وجود القانون، وإنما هو مجرد شعور كامن في النفس بضرورة مراعاة حقوق وواجبات الآخرين. 
إن ما تقدم يشبه الوضع القانوني لبعض الجماعات التي تعيش حاليًا عيش الجماعات البدائية، منها   تلك الجماعات الهمجية في أمريكا الجنوبية، التي ليس لديها قانون ولا محاكم سوى الرأي العام، فكل إنسان يحترم حقوق الآخرين احترامًا دقيقًا، فالاعتداء على هذه الحقوق يندر وقوعه أو يستحيل، إذ أن الناس في هذه الجماعات متساوون تقريبًا. 

* نظام القوة ومجال استعمالها 
إن التعاون بين أفراد المجتمع من شأنه أن ينشىء علاقات بينهم، ولابد لسلامة هذه العلاقات واستمرار التعاون من نظام يحدد الحقوق والواجبات. وقد كان هذا النظام في نشاة الجماعات الأولى، يقوم على القوة، فكانت هي التي تنشيء الحق وتحميه وهي الحكم في كل خصومة والفيصل الحاسم لكل نزاع، وكان القوي هو صاحب الحق في كل ما يناله بالغلبة والقهر. وقد بقي الإنسان طيلة العصر الحجري القديم، يدفع القوة بالقوة دون وازع يزعه عن الظلم والاعتداء، فكان يعيش في حالة تربص وحذر، وكانت حياته مسرحا للنزاعات والحروب المتصلة، لا يأمن فيها على حياته، ولا يستقر معه على حال. 
ومن أجل ذلك اقتضت سلامته واستقرار حياته وجود وازع يمنع من الظلم والاعتداء، وكان هذا الوازع، هو الأساس الذي قام عليه مفهوم القانون, وإلى هذا يشير ابن خلدون في مقدمته بالقول "ثم إن هذا الإجتماع إذا حصل للبشر كما قررنا وتم عمران العالم به، فلا بد من وازع بدفع بعضهم عن بعض، لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم".

 يبدو مما تقدم بأن القوة على الرغم مما تنطوي عليه من معنى القسوة والظلم، إلا أنها دفعت الإنسان الى احترام الإنسان الأخر خوفا من بطشه، وبذلك خلق الوازع التنظيمي لرسم العلاقة بين الجماعات البدائية، الذي بدونه سيزداد العدوان والظلم أكثر فأكثر على أن أستعمال القوة لم يكن مقصورًا على العلاقات بين الجماعات المختلفة، وإنما كان يعد ذلك الأساس الذي تدور حوله العلاقات بين افراد الجماعة الواحدة، ففي داخل إطار الجماعة نجد أن النظام العقابي كان يقوم على أساس الانتقام الشخصي أو الثأر, فكان كل فرد يثأر لنفسه إذا ما وقع عليه أي اعتداء، ولما كانت الجماعات البدائية تبلغ حدة من الضالة يندر معه وقوع اعتداءات من بعض افرادها على البعض الآخر، فإننا لا نكاد نجد لديها جزاءات محددة لصور الاعتداء المختلفة، وإنما كان الفرد المعتدى عليه هو الذي يقدر ما إذا كان الفعل الذي وقع عليه يعتبر اعتداء يستوجب العقاب أم لا، وهو أيضا الذي يقدر نوع العقاب ومقداره وهو الذي يوقعه بنفسه أو بمعاونة اهله وأصدقائه, أما خارج دائرة الجماعة فقد ظلت القوة هي الوسيلة الوحيدة التي تحسم كل نزاع بين الجماعات المختلفة مهما كان نوعها، وهي التي تحمي الحق بل وتخلقه. لأن تقدیر الحق أو الواجب مبني على قوة الخصم أو ضعفه، دون تفرقة في ذلك بين أمر مدني وأمر جنائي، فكل إعتداء على حق كان يعد جريمة تدفع المعتدى عليه وبشدة الى الانتقام، إن هذه الحالة كانت تتفق مع معيشة القوم وعقليتهم إذ لا تعترف الجماعة بحق للغريب عنها، بل تعتبره عدوة يحل قتله، ولا تعد بالاعتداء على شخص الغير أو ماله، فلا تعتبره جريمة ولا يجر على صاحبه وزرا ولا عارا، بل كان السلب مسلكا  شريفا، والاغارة مبعثا للفخر، والانتقام واجبا تحتمه المروءة.
أي أن القوة كانت فيصل كل نزاع في علاقة الجماعة بغيرها من الجماعات ويعتقد بعض الأساتذة أن سبب التجاء الأفراد في الجماعات البدائية إلى القوة هو أن مفهوم حقوق الفرد الخاصة لم يكن معترفًا بها إذ كانت الملكية جماعية. وكان الالتجاء إلى القوة للدفاع عن المال أو العرض هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة في ذلك الحين. وقد ساعد على الالتجاء إلى الإنتقام الشخصي عدم وجود قواعد دينية، تحظر الالتجاء إلى القوة، ولم يتلاشی مبدأ استعمال القوة الا بعد أن تهذبت اخلاق القوم، وبدأ الشعور بأحترام حقوق الغير، فقل الرجوع إلى القوة للدفاع عن النفس والمال والذي ساعد على أختفاء القوة أزدياد سلطة رؤساء الجماعات الذين أعتمدوا على قوتهم، أو على دهائهم وحنكتهم في إقناع الأفراد بترك أسلوب الإلتجاء إلى القوة.

فاندثرت فكرة الانتقام الشخصي واستعمال القوة عندما تأصلت الديانة في قلوب الأفراد ومنحت الرؤساء سلطانا قويًا استطاعوا بموجبه أن يوقعوا الجزاء على من يعصي أوامرهم وأصبحت السلطة المطلقة بيدهم واختفى بذلك كل آثر لأستعمال القوة في تنظيم العلاقات بين الأفراد. ولقد شعر الإنسان أن استمراره في الاحتكام إلى القوة في علاقات الجماعات المختلفة سيمنع من تكريس جهوده على الزراعة ويحرمه من التمتع بخيراتها، أضف إلى ذلك استقرار الإنسان في عصر الزراعة كان قد خفف من جنوحه إلى العنف ودفعه إلى أن يقبل على حياة الهدوء والأستقرار، فحاول أن يحد من أستعمال القوة وان يحصر الأضرار الناتجة عنها أو أن يستعيض عنه بوسائل أخرى.

* أسباب التخلي عن القوة 
عندما جاوزت الجماعات البدائية حياة التنقل والترحال سعيا وراء الرزق وبدأت تستقر في الأرض، أخذت تفكر في ابعاد شبح الحروب للاطمئنان على ما كانت تبذله من جهود لإحياء الأرض وزراعتها, وكان لذلك التفكير أثره الواضح على فكرة العدالة لدى تلك الجماعات، فهي لم تعد تقوم على أساس المصلحة المادية المعززة بالقوة، بقدر ما أصبحت تقوم على حب العيش وإشباع غريزة البقاء لدى الإنسان. وقد تبلورت تلك الفلسفة في اتجاه الجماعات البدائية نحو البحث عن وسائل بديلة للقوة، لحسم المنازعات التي تثور بينها وعلى هذا الأساس أخذ استعمال القوة يقل داخل الجماعة، حتی تلاشی وإنعدم آثره، اثر توفر المزيد من القوت، فقد كان الالتجاء إلى القوة وسيلة لسد الحاجات بالحصول على ما في يد الغير، وقد قلت الحاجة إلى القوة بعد أن أخذ الإنسان في التغلب على الحيوانات، بما اخترعه من أدوات، وحدث عن هذا سلوك اخلاقي بين إفراد الجماعة يقوم على أحترام ما في يد الغير. 
ومع ذلك فقد بقي استعمال القوة سائدا خارج نطاق الجماعة، بعد اندثاره في داخلها. واستمر إفراد القبائل المتجاورة يعتمدون على القوة في إنشاء الحق وحمايته. وكان من نتيجة ذلك ان تأصلت العداوة بين أفراد القبائل المتجاورة واتصلت بينهم الحروب، ثم ظهر مع الزمن شعور بضرورة الحد من استعمال القوة. وهو شعور غريزي املته ضرورة الحياة وما يقتضي لاستمرارها من أمن وسلام وحسن جوار. وقد ساعد على ذلك إستقرار كثير من الجماعات فيها الأرض، تزرعها وتنشيء فيها القرى.

 * وسائل الحد من الالتجاء إلى القوة 
لجأ الإنسان في مرحلة لاحقة من تطوره الاقتصادي والأخلاقي والعقلي إلى عدة وسائل للحد من استعمال القوة ويمكن إجمال هذه الوسائل كما يلي :-

1- التحكيم : يعتبر التحكيم مرحلة تطورية كبيرة وصلت إليها الجماعات الفطرية في عهد القوة. وتمثل فكرة التحكيم الرضاء بحكم العقل و منطقه بدلاً من ثورات الغضب،  واللجوء دائما صوب النار والإنتقام. كان التحكيم في باديء الأمر اختياريًا، وقد خفف من الالتجاء إلى القوة ولم يقضي عليها، إذ بقيت القوة هي المرجع الأخير في فض النزاع إذا لم يرض أحد الطرفين بالتحكيم أو رفض تنفيذه. وكان التحكيم في بداية الأمر يعتمد على بعض الأساليب البدائية التي تعتمد على الصدفة، ثم تطورت تلك الأساليب واختلفت صورها، فكان التحكيم في بعض الجماعات يتمثل في الاحتكام إلى مهارة الخصمين، فينظم الحكم بينهما مبارزة، يكون المنتصر فيها هو صاحب الحق. وكانت المبارزة تجري بين الخصمين، أو بين عدة أشخاص، يختارون بالتساوي من كلا الجماعتين، فتكون المبارزة جماعية. ولدى بعض الجماعات الأخرى، کان التحكيم يعتمد على مهارة الخصمين الفنية، فتنظم بينهما مساجلات غنائية يكون المنتصر فيها هو صاحب الحق، کما  أن بعض القبائل كانت تحتكم إلى مجرد الصدفة، كان يعرض الخصمان قطعتين من الخبز في مكان معين، حتى إذا جاء إليهما طائران من نوع معين وأكلا احدی القطعتين، كان صاحب القطعة الأخرى الباقية هو صاحب الحق. على أن ارقى صور التحكيم وأكثرها بعدا عن القوة الفردية هي الاحتكام إلى شخص ثالث يتم أختياره بواسطة أطراف النزاع عن رضاء وإتفاق كامل بينهما. وقد يكون هذا الشخص الثالث حكيما في الجماعة، أو صاحب خبرة ورأي، أو رئيس العشيرة.
ولما ظهرت العقيدة الدينية، أخذ الخصوم يحتكمون عند رجال الدين في كل نزاع، سواء تعلق بمال أو اعتداء، إذ لم يكن يومئذ من تفريق بين أمر مدنی وأخر جزائي، فكل تجاوز على مال أو عدوان على نفس، كان يعتبر جرمًا.

2- التخلي عن الجاني : ويتم ذلك بأن تقطع جماعة المعتدي صلتها به وتطرده وتتبرأ منه فيصبح دمه مهدورًا، ويحرم على أي شخص في الجماعة إيوائه أو حمايته، والتخلي عن الجاني يأخد إحدى الصورتين، أولاهما خلع  الجاني، حيث كان باستطاعة عشيرة المعتدي، إذا لم تشأ تحمل مسؤولية إعتدائه، أن تتبرأ منه وتتخلى عنه فيصبح  بذلك طريدًا لا أسرة له وحينئذ يكون لعشيرة المجنى عليه أن تقتص منه كيفما شاءت، والصورة الثانية هي تسليم الجاني، حيث تعمد جماعة الجاني إلى تسليمه إلى المجنى عليه أو جماعته، وبذلك تنجو عشيرة الجاني من الإنتقام وتتاح الفرصة امام جماعة المعتدى عليه لاطفاء شهوة الإنتقام، ولم يكن الأمر مقصورًا على تسليم الأشخاص بل كان يشمل كذلك تسليم الأشياء التي سببت ضررًا للغير، حيث طبق هذا المبدأ على الحيوان والجماد أسوة بالإنسان تأسيسًا على أن كل ما له وجود له روح. ويشير البعض إلى أن الرومان عرفوا هذا النظام فيما بعد تحت إسم التخلي عن مصدر الضرر، وبهذه المثابة يكون لرب الأسرة الخيار بين تسليم مصدر الضرر أو دفع الغرامة المقررة قانونًا. ومن جهة أخرى طبق فقهاء المسلمين هذه الفكرة بالنسبة للرقيق الذي يرتكب عملاً غير مشروع. إذ يكون لسيده الخيار بين تسليمه لأهل المجنى عليه أو دفع الفداء.

3- القصاص : هو الانتقام من الجاني بمثل جنايته. النفس بالنفس والعين بالعين والأذن بالاذن والأنف بالأنف والسن بالسن، و بذلك أضحى الانتقام منظما، بحيث لا يجوز تجاوز الاعتداء بمثله ويمتاز هذا النظام بأنه يرمي من جهة الى إرضاء شهوة المعتدى عليه أو جماعته في الانتقام والأخذ  بالثأر، ومن جهة أخرى الى إنزال عقوبة بجماعة المعتدى تتعادل مع ما اصاب جماعة المجنى عليه من ضرر، فهو وسيلة يمكن بمقتضاها تفادي الإسراف في الأخذ بالثأر وما يترتب عليه من عدم التناسب بين الاعتداء والإنتقام في الشدة والقسوة، ولذلك يمكن القول بأن نظام القصاص قد جاء (بديلاً عاقلاً) للحروب الخاصة. وقد وصلت الجماعات الفطرية الى هذه المرحلة بعد أن تهذبت أخلاقها بعض الشيء وأصبح الانتقام منظما بحيث لا يتجاوز الاعتداء بمثله. وقد جاء ذلك نتيجة تطور سلطة رؤساء الجماعات واستعمال نفوذهم لأقناع إفراد جماعاتهم بعدم الالتجاء إلى الحروب والاكتفاء بالقصاص من الجاني لوحده. وفي الجماعات القديمة لم يكن القصاص قاصرا على الإنسان الجاني بل كان يشمل الحيوان. فالحيوان الذي يقتل إنسانًا كان يقتص منه بالقتل، بينما في الشرع البابلي كان الثور لا يقتل بل يلتزم صاحبه بالتعويض. وقد جرت العادة عند بعض الشعوب القديمة أن يقدم الحيوان القاتل الى المحاكمة،  فإذا ثبت الجرم تقضي المحكمة بقتله، وقد أثبت دراكون هذه العادة في قانونه. 
أما عند الرومان والجرمان والانكلوسكسون فإن على مالك الحيوان أن يعوض الضرر، إلا إذا تخلى عنه للمتضرر. وتسري هذه القاعدة على الولد أو الرقيق إذا احدثوا ضررًا وتسمى (التخلي عن محدث الضرر) ومن دراسة وتحليل المواد الخاصة بالإيذاء الواردة في قانون حمورابي، يتبين بأن هذا القانون أخذ بمبدأ القصاص مع عدم إهماله و الأخذ بمبدأ هام أخر أكثر تطورًا وهو مبدأ التعويض.
ويظن البعض بان مبدا القصاص هو من المبادئ القانونية السامية الأصل التي جاء بها الأكديون والبابليون إلى العراق. ويدل على ما تقدم ما جاءت به المادة 196 من قانون حمورابي التي تقول (إذا فقأ رجل عين رجل آخر، فعليهم أن يفقأوا عينه) وتؤكد المادة ۱۹۷ نفس الإتجاه فتقول (إذا كسر رجل عظم رجل آخر، فعليهم أن يكسروا عظمه). وتقول المادة ۲۰۰ (إذا قلع رجل سن رجل من طبقته، فعليهم أن يقلعوا  سنه). وقد أخذت الشريعة الإسلامية الغراء بمبدأ القصاص، إلا أنها لم تنس التشجيع على الأخذ بالتعويض بدلاً عنه، كما لم تنس التذكير بحكمة الأخذ بهذا المبدأ، حيث جاء في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا کتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف واداء اليه باحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم). 
يقول تعالى في هذه الآية، كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون حركم بحركم وعبدكم بعبدكم وانثاكم بانثاكم ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم . 
وقوله تعالى (فمن عفي له من أخيه شيء) أي ترك له من ولي المقتول شيء ويعني ذلك الأخذ بالدية بعد استحقاق الدم وذلك هو العفو. و قوله تعالى (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة). أي أن الله سبحانه وتعالى شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا من الله عليكم ورحمة بكم مم كان محتوما على الأمم  من قبلكم من القتل أو العفو، وان الخالق رحم هذه الأمة وأطعمهم الدية ثم جاء تاكيد الخالق جلت قدرته على حكمة القصاص بقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلکم تتقون). 

4- الدية : هو نظام توصلت إليه الجماعات الإنسانية بعد أن توفرت لديها الأموال، وكان ذلك في أواخرعهد الصيد ثم امتد إلى عهد الزراعة البدائية ثم الزراعة الراقية. والدية عبارة عن مبلغ من المال يدفعه المعتدي أو عشيرته تهدئة إلى المعتدی عليه تهدئة لثورة غضبه، وغالبًا ما يفوق هذا المبلغ قيمة ما أصاب المجني عليه من ضرر، لأنه عبارة عن ثمن يقدمه الجاني ليشتري به حياته. كذلك قد يقوم الجاني واهله بتسليم عدد من الصبية أو الماشية إلى أهل المجني عليه، بل وكان الجاني يعمد أحيانا لتقديم اخته أو إحدى قريباته لتكون زوجة المعتدى عليه حينما لا تتوفر له الأموال اللازمة للفداء.
ويبدو أن الدية كانت تقتسم بين أهل المجني عليه فيأخذ كل منهم نصيبه منها، وبذل حل التضامن في دفع التعويض أو قبض محل التضامن في نصرة الجاني أو مؤازرة المجني عليه. 
من ناحية أخرى فإن الدية كانت تختلف باختلاف الجناية، وكان يراعي في تقديرها مكانة المجني عليه وما أصابه من ضرر، ففدية النفس عند العرب مائة من الإبل، ويزداد هذا العدد إذا كان المقتول من الرؤساء، فإذا بلغ مرتبة الملوك كانت الف بعير، وكان قبول الدية اختيارا، لا يمنع من اللجوء إلى الانتقام عند رفضها. وبعد أن قوي سلطان رؤساء القبائل، وظهرت الدولة، أصبحت الدية إجبارية كما أصبح مقدارها موكولا إلى التحديد الذي تقوم به السلطة العامة، وبذلك تحولت الدية من اختيارية إلى دية إجبارية أو قانونية.

5- وسائل الإثبات : اعتمدت المجتمعات القديمة على عدة وسائل لإثبات ذنب الجاني أو براءته منه بهدف وضع حد للمنازعات بأية وسيلة، فهناك المحنة التي تختبر من خلالها براءة الشخص المتهم، حيث كان يطلب إليه أن يتناول طعامًا مسمومًا، فإن مرض أو مات كان مذنبا، أو يقدم الى المتداعين طعام في صحيفتين، إحداهما مسمومة، فمن تناول منهما الصحيفة المسمومة يخسر دعواه، أو أن يطلب من المتهم أن يقبض على قطعة من الحديد المحمي في النار إلى درجة الإحمرار، أو يغمس يده في ماء ساخن إلى درجة الغليان، فإن ظهر الشفاء على الحروق بعد ثلاثة أيام فهو بريء. ومن وسائل الاختبار الآخرى التي تشكل نوعا من المحنة أيضًا أن يطلب من المتهم إجتياز امتحان قاس يتجلى في الالقاء به في النهر أو النار فإن نجا أعتبر بريئا وأن مات، أو اصيب بأذى ثبتت التهمة في حقه،  ومن وسائل الإثبات الأخرى اليمين، وكان الحلف على الحجارة اكثر شيوعًا عند الجماعات البدائية، وعند بعض الشعوب كانت هناك أحجار من نوع معين تسمى أحجار اليمين، وعند شعوب آخرى كان يجري الحلف على السيف المرهف أو الخنجر المسنون، فكان المدعي يثبت بدعواه بيمينه لأعتقادهم بالقوة الخارقة التي تكمن في الشيء المحلوف عليه وخشية من انتقامها وصب لعنتها عليه.

* آثار القوة  كأحد الظواهر القانونية في العصور البدائية على الشرائع اللاحقة 
من المعروف أن القواعد القانونية ليست وليدة يومها، وإنما هي نتيجة تفاعل زمني طويل، وحصيلة متغيرات إجتماعية واقتصاية وإنسانية عبر أزمان بعيدة في عمق التاريخ. ولذلك تركت الظواهر القانونية في المجتمعات البدائية بصماتها على القواعد القانونية والتقاليد التي سادت لدى الأمم اللاحقة، والتي لا يمكن تبريرها أو تفسيرها إلا بانها امتدادًا لما كان يسود في تلك المجتمعات الفطرية، بل إن ما نجده من قواعد وتقاليد قد يعد دليلاً على حالة المجتمعات الإنسانية في العصور الأولى.

- آثار القوة : إذا كانت القوة في السابق هي التي تنشىء الحق وتحميه، فإن القوة بقيت حتى بعد معرفة الإنسان للقواعد التنظيمية، باعتبارها من وسائل تنفيذ القواعد القانونية، بل إن التشريعات الحديثة أقرت لجوء المعتدى عليه إلى القوة من أجل رد الإعتداء الذي يتعرض له، حينما لا يستطيع الاستعانة بالسلطة العامة، لتعذر ذلك في ساعة خطر، وأعتبرت التشريعات الحديثة ذلك، من باب الدفاع الشرعي. ولا زالت التشريعات الحديثة تعتبر الاستيلاء من أسباب كسب الملكية. كذلك لا زالت عناصر الدعوى والدفاع في العصر الحديث تحمل في اسمائها اثر الأسلوب الفطري، وتنم عن صلة الشبه بين الماضي والحاضر، فالدعوى يطلق عليها  (action) وفيها معنى النشاط الحربي، والمدعى عليه يسمى المدافع ومرافعة أحد الطرفين تسمى الدفاع، إشارة إلى المعركة القضائية في العصور السالفة.
غير أن الفارق جوهري، فقد كان الحق ولید تبادل الطعنات، واليوم أصبح الحق ولید تبادل الكلمات. وفي إطار القانون الجنائي نجد أن التشريعات الحديثة تنص على مصادرة الأدوات والآلات التي أستعملت في أرتكاب الجريمة ويقرر الباحثون أن هذه القاعدة انما ترجع إلى أن العقوبة كانت قائمة قديمًا على الإنتقام من مرتكب الجريمة سواء كان انسانًا أم حيوانًا أم جمادًا.
وفي مجال القانون الدولي العام نجد أن القوة لا زالت هي الأساس الذي تدور حول العلاقات الدولية، فإذا نشب نزاع بين دولتين وتعذر فضه بالطرق والوسائل السلمية مثل التصالح أو الوساطة أو التحكيم، فإن الدولتين تلجئان إلى الحرب،  وعندئذ يكون للدولة المنتصرة الحق في الاستيلاء على أرض الدولة المنهزمة واستعباد شعبها أو تسخيره لمصلحتها، ولاشك أن سندها الوحيد في كل ذلك هو القوة. ويبرز عمل القوة في أيامنا هذه اكثر من أي وقت مضى حيث انها تستخدم في هذا العصر المتطور خلافًا لكل المواثيق والطبائع الإنسانية، بل إنها تستخدم أحيانًا بشكل مريع وهمجي ربما لا يرقى إليه في بشاعته أكثر المجتمعات البدائية تأخرًا. 


ينظر : كتاب تاريخ القانون, تأليف الدكتور صاحب عبيد الفتلاوي, مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع, عمان, الطبعة الأولى سنة 1998, الصفحات التالية (26-38 , 44-46)
اهلاً بكم في مدونة المرشد القانوني

نلفت أنظاركم إلى مستودع في غاية الأهمية على منصة التيليجرام علمًا هو متخصص بإرفاق المصادر القانونية من حيث المعاجم والكتب والمجلات والاطاريح والرسائل.

حسناً