إن دراسة تنظيم القضاء الإداري الفرنسي تقتضي تناول هيكل هذا القضاء واختصاصات وحداته, ويشمل هيكل القضاء الإداري الفرنسي مجموعة محاكم إدارية على رأسها مجلس الدولة, وإلى جانبه توجد محاكم إدارية إقليمية كانت تسمى مجالس دواوين المديريات وأصبح يطلق عليها أسم المحاكم الإدارية.
أنشئ مجلس الدولة الفرنسي بموجب دستور السنة الثامنة للجمهورية الأولى, وذلك بوصفه هيئة استشارية مهمتها تقديم المشورة للحكومة سواء في سن القوانين أو مباشرة شؤون الإدارة أو الفصل في المنازعات, ثم أكتمل له الاختصاص القضائي بصدور قانون 24 مايو سنة 1872 إذ أصبحت له سلطة إصدار أحكام نهائية في المنازعات المعروضة عليه وقضاؤه بشأنها باتًا أو مفوضًا. ويقضي قانون تنظيم مجلس الدولة لسنة 1945 بأن يتبع المجلس رئيس الحكومة المؤقتة بصفته رئيسًا لمجلس الوزراء, وأن يتكون المجلس من وكيل وخمسة رؤساء أقسام ومن عدد من المستشارين العاديين والمستشارين فوق العادة, والنواب الذين يعهد إلى أحدهم بوظيفة السكرتير العام للمجلس والمندوبين المقسمين إلى درجتين. وتنص المادة الثالثة من القانون المذكور على أنه يجوز أن يعهد برئاسة الجمعية العمومية للمجلس, وكذلك اللجنة الدائمة إلى رئيس الحكومة المؤقتة وفي حالة غيابه إلى وزير العدل وعند غيابهما تكون الرئاسة لوكيل المجلس. وللوزراء الحق في حضور جلسات الجمعية العمومية, ولا يعتد بأصواتهم إلا في المداولات غير القضائية الخاصة بوزاراتهم.
وينقسم المجلس إلى خمسة أقسام داخلية أربع منها إدارية وهي قسم الداخلية وقسم المالية وقسم الاشغال العامة والقسم الاجتماعي والقسم الخامس هو القسم القضائي وهو الذي يفصل في المنازعات الإدارية وينقسم بدوره إلى عدة أقسام فرعية.
ويباشر المجلس نوعين من الاختصاصات, أحدهما استشاري أو إداري والآخر قضائي, وكان الاختصاص الاستشاري أوسع نطاقًا وأكثر أهمية في بدايات نشأة المجلس, إلا أن الاختصاص القضائي أصبح بعد التطور هو الأوسع نطاقًا والأعظم أهمية:
1. الاختصاص الاستشاري: مجلس الدولة هو الهيئة الاستشارية للحكومة, فهو الذي يقدم لها المشورة سواء في المجال التشريعي أو في المجال الإداري.
- في المجال التشريعي: كان اختصاص المجلس في نشأته الأولى هامًا جدًا, إذ يقوم بإعداد مشروعات القوانين, إلا أن هذا الاختصاص تضاءل بظهور النظام البرلماني وازدهار مبدأ سيادة الأمة, مما أدى إلى تركيز السلطة التشريعية في يد البرلمان باعتباره ممثلاً للأمة, فأصبح إسهام مجلس الدولة في الوظيفة التشريعية محدودًا في إبداء الرأي عند عرض مشروعات القوانين عليه من جانب الحكومة. وتلتزم الحكومة بأخذ رأي مجلس الدولة في مشروعات القوانين قبل التداول بشأنها في مجلس الوزراء, كما تلتزم بأخذ رأيه في الأوامر التي تصدرها بناءً على تفويض من البرلمان في المجال المحجوز للقانون. بالرغم أن الحكومة تلتزم بأخذ رأي مجلس الدولة في الحالات السابقة إلا أن رأيه غير ملزم لها.
- في المجال الإداري: يمثل الاختصاص الاستشاري لمجلس الدولة في المجال الإداري بتقديم الرأي والفتوى للحكومة في المسائل الإدارية المختلفة. فأخذ رأي مجلس الدولة إجباري بالنسبة للمراسيم التي لها قوة القانون والتي تفوض الحكومة في إصدارها, وكذلك بالنسبة للوائح الإدارة العامة. وكذلك تلتزم الحكومة بالرجوع إلى المجلس بشأن اللوائح التي تصدر في إحدى المواد التي ضمن نطاق السلطة اللائحية إذا تضمنت تعديلاً لقانون سابق منظم لتلك المادة. فالأصل أن استشارة مجلس الدولة هي اختيارية للحكومة إلا إذا كان ثمة نص يقضي بوجوبها, وكذلك الأمر بالنسبة لرأي المجلس, فهو غير ملزم للحكومة إلا بناءً على نص صريح. على أنه يلاحظ على أن للمجلس من تلقاء نفسه أن يلفت نظر السلطات العامة إلى التعديلات التشريعية أو اللائحية أو الإدارية التي يرى اتفاقها مع الصاح العام.
- الاختصاص القضائي: يتولى القسم القضائي في مجلس الدولة الفصل في المنازعات التي تعرض عليه, لكن سلطته بشأن تلك المنازعات تختلف وفقًا لنوعها وطبيعتها فهو يعد محكمة نقض أو تمييز بالنسبة لجميع المحاكم الإدارية التي تفصل بصفة نهائية فيما يعرض عليها من منازعات, أي المحاكم التي لم ينص القانون على درجة إستئنافية لها, كمحكمة المحاسبة ومجالس المراجعة. ويعد محكمة إستئنافية بالنسبة لبعض المحاكم الإدارية كمجالس دواوين المديريات ومحاكم المستعمرات. كما أنه يعد محكمة أول وآخر درجة بالنسبة لبعض المسائل والمنازعات الإدارية.
وقد كان مجلس الدولة الفرنسي يعد صاحب الاختصاص الأصلي بنظر المنازعات الإدارية, بمعنى أنه كان يختص بنظر جميع المنازعات الإدارية التي لم ينص القانون صراحة على إخراجها من اختصاصه وجعلها من اختصاص محكمة أخرى, في حين كانت مجالس دواوين المديريات تعد محاكم ذات اختصاص محدد, فهي لا تختص إلا بنظر المسائل المنصوص عليها صراحة في القانون.
ونتيجة لما ترتب على هذا الوضع من زيادة كبيرة لعدد القضايا المعروضة على مجلس الدولة مما أدى إلى بطء الفصل فيها, صدر مرسوم 30 سبتمبر (أيلول) لسنة 1953 بناءً على تفويض تشريعي للحكومة بموجب قانون 11 يوليو (تموز) لسنة 1953 والذي بموجبه أصبح مجلس الدولة ذات اختصاص محدد بينما أصبحت المحاكم الإدارية هي المحاكم ذات الاختصاص العام أو الأصلي.
وبناءً على مرسوم سنة 1953, أصبح اختصاص مجلس الدولة محددًا بالمسائل الآتية:
1. الطعون بسبب تجاوز السلطة أو دعاوى الإلغاء الموجهة ضد المراسيم اللائحية (التنظيمية) أو الفردية.
2. المنازعات المتعلقة بالمراكز الفردية للموظفين المعينين بمرسوم, وأضيف لها المنازعات المتعلقة بتعيين أعضاء المجلس الاقتصادي, ثم طعون الإلغاء الموجهة إلى اللوائح الصادرة من الوزراء أيًا كان الشكل الذي تصدر فيه, وكذلك الطعون الموجهة إلى القرارات الإدارية النهائية الصادرة من مجالس نقابات المهن المختلفة.
3. الطعون الموجهة ضد أعمال إدارية يتجاوز نطاق تطبيقها دائرة اختصاص محكمة إدارية واحدة.
4. المنازعات الإدارية التي تنشأ خارج دائرة اختصاص المحاكم الإدارية ومحاكم المستعمرات.
ومما تقدم يتضح أن المسائل التي جعلت من اختصاص مجلس الدولة كان السبب وراءها إما لأهميتها, أو لعدم وجود محكمة إدارية تختص إقليميًا بنظرها.
أنشات هذه المحاكم في السنة الثامنة للجمهورية الأولى, أي في السنة نفسها التي أنشئ فيها مجلس الدولة وكانب تسمى مجالس دواوين المديريات أو الأقاليم, وكانت بواقع مجلس لكل مديرية.
كانت مجالس دواوين المديريات التي أصبحت فيما بعد المحاكم الإدارية تابعة لجهة الإدارة, فكان عددها بعدد المديريات أو المقاطعات الفرنسية, وكانت رئاستها تنعقد للمدير ومفوض الحكومة بها يمارسها السكرتير العام للمديرية. إلا أن هذه المجالس, وبعد تعديل سنة 1926 حظيت بقدر كبير من الاستقلال فقل عددها بحيث أصبح اختصاص كل مجلس يشمل عدة مديريات, إلا في حالات استثنائية يكون المجلس فيها قاصرًا على مديرية واحدة, كذلك لم يكن من حق المدير رئاسة المجلس ولا من حق السكرتير العام للمديرية تولي وظيفة مفوض الحكومة, كما أصبح مستشارو هذه المجالس هيئة مستقلة قائمة بذاتها ووضع لهم نظامًا خاصًا بالتعين والترقية, الأمر الذي حقق لهذه المجالس استقلالاً كبيرًا تجاه الإدارة. وتمارس المحاكم الإدارية هي الأخرى نوعين من الاختصاصات, أحدهما استشاري والأخر قضائي:
1. الاختصاص الاستشاري: تختص هذه المحاكم, قبل سنة 1953, بإعطاء المشورة للمديرين في المديريات التابعة لاختصاص كل منها, وقد كان القانون يلزم المدير بأخذ رأي مجلس ديوان المديرية في مسائل معينة حتى جاء مرسوم سنة 1926 إذ أصبح قاعدة عامة أخذ رأي هذا المجلس اختياريًا. وإلى جانب ذلك تملك مجالس دواوين المديريات سلطة إصدار قرارات إدارية في حالات معينة كمنح الترخيص برفع الدعوى للمؤسسات العامة القروية, وكذلك للمسؤولين الذين يمثلون المدن أو البلديات.
2. الاختصاص القضائي: لقد كانت هذه المحاكم منذ نشأتها بوصفها مجالسًا لدواوين المديريات تملك سلطة القضاء البات أو المفوض خلافًا لمجلس الدولة الذي كان قضاؤه معلقًا على تصديق رئيس الدولة ولم يكتمل له اختصاصه القضائي إلا في سنة 1872 وأحكام هذه المحاكم ليست نهائية بل قابلة للإستئناف أمام مجلس الدولة إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك.
وقد كان اختصاص كل مجلس ديوان لمديرية بحدود المديرية أو المديريات التابعة له, وبموجب لائحة الإدارة العامة الصادرة في 28 نوفمبر (كانون الأول) سنة 1953, أصبحت المحكمة الإدارية المختصة إقليميًا بنظر الدعوى هي التي يوجد بدائرتها مركز السلطة التي أصدرت القرار المطعون فيه أو وقعت العقد محل النزاع. وقد كان اختصاص هذه المحاكم حينما كانت مجالس دواوين اختصاصا محدودًا بينما كان اختصاص مجلس الدولة اختصاص عام وشامل, فكانت لا تختص إلا بالمسائل الواردة على سبيل الحصر بنصوص قانونية صريحة وهي المسائل هي :
- القضايا المتعلقة بالضرائب المباشرة والأشغال العامة وبيع أموال الدولة ومخالفات الطرق.
- المنازعات الخاصة بالهيئات المحلية.
- المسائل التي يجعل الاختصاص فيها لمجالس دواوين المديريات بمقتضى قوانين خاصة, كالمنازعات المتعلقة بطلبات الترخيص بفتح المحلات الخطرة أو المقلقة للراحة والمضرة بالصحة وغير ذلك.
ولكن مرسوم 30 سبتمبر (أيلول) لسنة 1953 والذي غير تسمية هذه المجالس بـ (المحاكم الإدارية) قلب قواعد توزيع الاختصاص بينها وبين مجلس الدولة, فأصبحت هذه المحاكم هي صاحبة الاختصاص العام في المنازعات الإدارية, فأصبح اختصاصها يشمل إلى جانب المسائل التي كانت تختص فيها قديمًا, سائر المنازعات الإدارية سواء كانت متعلقة بالإلغاء أو بولاية القضاء الكاملة أو بفحص المشروعية أو بالتفسير, ومن ثم أصبح الطعن بسبب تجاوز السلطة من اختصاص هذه المحاكم باعتبارها محاكم أول درجة, على أن تكون الأحكام الصادرة بالإلغاء قابلة للطعن فيها بالإستئناف أمام مجلس الدولة, وبذلك أصبح ينظر على درجتين بعد أن كان يرفع مباشرة إلى مجلس الدولة وينظر على درجة واحدة.