🖊 بقلم الدكتور أحمد طلال عبد الحميد البدري
من أحد غايات الاصلاح التشريعي لقانون مجلس الدولة العراقي هو تحقيق العدالة والسرعة في الإجراءات وإذا ما تم تطبيق هذين المبدأين يبدأ الجدل الدائر حول مدى أثر تعدد درجات التقاضي على بطء الإجراءات والعدالة الإدارية، ومع ذلك تبقى مبررات تعدد درجات التقاضي قائمة لا غنى عنها، فالمحكمة قد تخطأ في فهم الوقائع أو تطبيق القانون، وفي الطعن امام محكمة أعلى وقضاة اكثر خبرة فرصة اكبر لتدارك الخطأ وتحقيق العدالة، وإذا ما تم وضع سياسات وآليات لإدارة الوقت ونظام صارم للمساءلة يمكن حسم الطعونات خلال مدة زمنية معقولة عند كل درجة من درجات التقاضي، عند ذاك يمكن الاستفادة من مزايا تعدد درجات التقاضي في تحقيق العدالة التي تعتبر من المرتكزات الرئيسية للحكم الرشيد والتنمية المستدامة، ومبدأ التقاضي على درجتين يعني إعادة طرح النزاع بعد الحكم فيه مرة أخرى على محكمة أعلى درجة لنظره من حيث الوقائع والقانون وتحكم فيه، بمعنى آخر رفع الدعوى اولاً إلى محكمة تسمى محكمة اول درجة ثم يكون للمحكوم عليه حق الطعن بهذا الحكم استئنافاً أمام محكمة أعلى تسمى محكمة الدرجة الثانية أو المحكمة الاستئنافية، حيث يطرح النزاع أمامها من جديد للفصل فيه بحكم نهائي.
ففي فرنسا : صدر قانون 31/ديسمبر/1985 الخاص بإصلاح القضاء الإداري وصدر لاحقاً في فرنسا تقنين شامل لجميع النصوص التشريعية واللائحية بشأن القضاء الإداري الفرنسي بكامل هيئاته من مجلس الدولة والمحاكم الإدارية الاستئنافية والمحاكم الإدارية تحت عنوان (تقنين العدالة الإدارية) بموجب المرسوم بقانون (389) في 4/ مايو/2000 ودخل حيز التنفيذ في يناير 2001، وكان الهدف من إصدار هذا القانون تخفيف العبء على مجلس الدولة دون المساس بخصائصه الاساسية المتمثلة بوصفه مستشار الحكومة الأول، وعدم الافراط في زيادة اعضاءه الفنيين الذين يمارسون العمل الفني الاستشاري والقضائي للحفاظ على القيمة الادبية للمجلس باعتباره احد الكادرات العالية المتميزة في الدولة، بموجب هذا القانون أصبح القضاء الإداري الفرنسي تنظيماً متكاملاً ذو ثلاث مستويات متصاعدة هي :
- مجلس الدولة : ويمثل القيادة القضائية الإدارية العليا في المستوى الثالث، حيث اعطاها قانون اصلاح القضاء الإداري وصف (قاضي النقض) في أحكام المحكمة الاستئنافية الجديدة لأسباب قانونية دون مسائل الواقع.
أما في مصر : فان القضاء الإداري يتوزع على عدة مستويات استناداً للمادة (3) من قانون مجلس الدولة المصري رقم (47) لسنة 1972 المعدل التي نصت على أن يؤلف القسم القضائي في المجلس من (أ- المحكمة الإدارية العليا. ب- محكمة القضاء الإداري ج-المحاكم الإدارية. د- المحاكم التأديبية. هـ- هيئة مفوضي الدولة)، ففي المستوى الأول هنالك (المحاكم الإدارية) التي تباشر اختصاصها كمحكمة اول درجة، وفي المستوى الثاني (محكمة القضاء الإداري) وتختص بنظر كافة المنازعات الإدارية عدا ما قرره القانون من اختصاص للمحاكم الإدارية والمحاكم التأديبية باعتبارها محكمة اول درجة، وايضاً تمارس اختصاصاً بصفتها جهة استئناف (محكمة درجة ثانية) بالنسبة للطعون التي ترفع إليها في الاحكام الصادرة من المحاكم الإدارية، أما في المستوى الثالث الأعلى توجد (المحكمة الإدارية العليا) وهي بمثابة محكمة نقض إدارية تنحصر مهمتها في التعقيب على جميع الاحكام الصادرة من محاكم مجلس الدولة إلا أن اختلاف المحكمة الإدارية العليا عن محكمة النقض للمحاكم العادية يكمن في كون محكمة النقض هي في الاساس محكمة (قانون) يقتصر دورها على التطبيق الصحيح لحكم القانون على الدعوى، أما المحكمة الإدارية العليا فهي محكمة (قانون ووقائع) فهي تطبق القانون على الدعوى كما لها حق التصدي لموضوع الطعن والفصل فيه دون الرجوع لمحكمة أخرى.
أما المحاكم التأديبية فتعتبر محكمة اول درجة فيما يتعلق باختصاصاتها ولا يتم الطعن بالأحكام الصادرة عن هذه المحكمة إلا امام المحكمة الإدارية العليا، وطبقاً لذلك فان الطعن القضائي في القرارات الصادرة من المحكم التأديبية لا يحظى إلا بدرجة واحدة من الطعن الذي يقع أمام المحكمة الإدارية العليا استناداً للمادة (23) من قانون مجلس الدولة رقم (47) لسنة 1972 المعدل، ولعل اغفال المشرع المصري عن تحديد طبيعة المحكمة الإدارية العليا فيما إذا كانت محكمة (قانون) أم (محكمة قانون ووقائع) دفع المحكمة لارتداء الطابع الاستئنافي فأصبحت تنظر الدعوى لأخر مرة وتصدر حكماً في موضوعها كمحاولة منها في إثبات قدرتها على حل المشاكل التي انشأت من اجلها.
أما في العراق : فأن قانون مجلس الدولة لم يأخذ بنظام التقاضي على درجتين أمام القضاء الإداري، وأن كان البعض يرى خلاف ذلك، إذ إن قرارات محكمة قضاء الموظفين قابلة للطعن تمييزياً أمام المحكمة الإدارية العليا مباشرة دون المرور بمرحلة استئنافية وفق المادة (7/ تاسعاً/ج) من قانون مجلس الدولة رقم (65) لسنة 1979 المعدل، وهذا من شأنه ان يفوت الفرصة أمام الموظف الطاعن في إخضاع حكم محكمة قضاء الموظفين لرقابة محكمة أعلى أكثر خبرة، ولذلك نرى أن حكم محكمة قضاء الموظفين يمثل حكم صادر من محكمة الدرجة الأولى والذي يكون معرضاً للخطأ أو قلة العناية في تمحيص الوقائع أو تطبيق القانون، في حين توفر محكمة الدرجة الثانية (الاستئناف) ميزة اعادة نظر النزاع مجدداً من حيث الوقائع والقانون والفصل فيه بحكم نهائي إذا ما روعيت التوقيتات المعقولة في حسم الدعوى وهذا يحقق اقصى درجات العدالة، إضافة لما يقدمه التقاضي على درجتين من دور وقائي يتمثل في حث قضاة الدرجة الأولى على بذل عناية شديدة خشية الرد والانتقاد من المحكمة الأعلى ، كما يؤمن التقاضي على درجتين التطبيق السليم للقانون والتكييف للوقائع والربط بينها وبين النصوص الواجبة التطبيق واستجلاء المعنى الحقيقي الذي قصده المشرع.
مما تقدم نرى من الضروري تشكيل المحاكم الإدارية الاستئنافية في العراق ويمكن ربطها بنائب رئيس مجلس الدولة لشؤون القضاء، تتوزع في ثلاث مناطق استئنافية في إقليم جمهورية العراق الشمال والوسط والجنوب وتتكون المحكمة الإدارية الاستئنافية من ثلاث هيئات تختص كل هيئة بنظر الطعون التي تخص محكمة القضاء الإداري (قاضي الشعب) ومحكمة قضاء الموظفين (قاضي الموظفين) عما يصدر من احكام في مجال الوظيفة العامة وفي مجال قضاء التأديب، ولضمان قضاء استئنافي عالي الجودة أي تحقيق الجودة القضائية في عمل المحكمة الاستئنافية يجب أن يصدر الحكم الاستئنافي من هيئة واسعة التشكيل لا تقل عن خمس مستشارين ويمكن الاستفادة من التجربة الفرنسية بهذا الخصوص، حيث نظم مرسوم 15/فبراير/1988 الخاص بعدد المحاكم الإدارية الاستئنافية ودوائر اختصاصها الاقليمي في المادة (22) منه وتشكيلة الغرفة في المحكمة الإدارية الاستئنافية وحددها بخمسة مستشارين وتشمل (الرئيس وينوب عنه احد المستشارين في حال غيابه وعضوية أثنين من مستشاري الغرفة، والمستشار المقرر) ونصت المادة (24) من المرسوم على العضو الخامس ويكون مستشار ينتمي لغرفة اخرى، كون وجود هذا العضو الاخير يعد عامل من عوامل تقوية وحدة المحكمة كما يحقق ضمانة أكثر لصالح الحيدة والعدالة باشراك عضو جديد في جلسة الحكم، حيث يساعد تشكيل الهيئة الاستئنافية الإدارية من عدد واسع من المستشارين تحقيق الجودة في قضاء الاستئناف يقترب من جودة المحكمة الإدارية العليا، كما يمكن المحكمة الإدارية العليا من ممارسة دورها باعتبارها (قاضي تمييز) وتقليل حالات التصدي الاختياري للمحكمة الإدارية العليا للحكم وان يقتصر دور التصدي إذا كان في صالح العدالة، ومن المؤكد إن المحكمة الإدارية العليا تملك سلطة تقدير ملائمة التصدي إلا أننا نفضل أن يقتصر التصدي للموضوع في حالات نقض الاحكام للمرة الثانية حيث يعتبر ذلك مبرراً للتصدي والفصل بموضوع النزاع من قبل المحكمة الإدارية العليا بنفسها اختصاراً للوقت والإجراءات، بمعنى أخر نرى إن تشكيل المحاكم الإدارية الاستئنافية يعمل على تحقيق جودة الاحكام وتقليل العبء على المحكمة الإدارية العليا من خلال تصفية الدعاوى وتعمل على تفرغ المحكمة الإدارية العليا لاختصاصها كونها محكمة تمييز وخلع الطابع الاستئنافي عنها وهذا من شأنه يعزز مكانتها كمحكمة إدارية عليا، ومما يعزز راينا هذا إن مجلس الدولة الفرنسي عندما يباشر اختصاص باعتباره محكمة نقض فأنه يراقب تطبيق القانون دون التعرض للوقائع.