تحديات تنظيم الوظائف العليا في العراق - المرشد القانوني

تحديات تنظيم الوظائف العليا في العراق

🖊 بقلم الدكتور أحمد طلال عبد الحميد البدري

لا تخضع الوظائف العليا عادة لقواعد وشروط التعيين في الوظائف العامة، ففي أمريكا تعد الوظائف العليا مستثناة من قوانين الخدمة المدنية ويتم التعيين فيها بصورة مباشرة من رئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس الشيوخ كوظائف الوزراء ورؤساء الهيئات الكبيرة المستقلة ووكلاء الوزارات وشاغلي وظائف السياسة العليا، وقد حدد القانون الصادر عام 1964 جدولاً بخمس درجات لتحديد رواتب  الوظائف المذكورة التي يغلب عليها الطابع الشخصي لأنه وثيق الصلة بالسياسة الحزبية، كذلك الحال نجد في فرنسا أن الوظائف العليا لها كيان مستقل ويضعها الفقه في منطقة وسطى بين الوظائف الإدارية والوظائف السياسية كالمدراء العامين ومدراء الإدارات المركزية وللحكومة سلطة مطلقة في تعينهم وفقاً للاعتبارات الشخصية والولاء والموثوقية أما في مصر فإن التعيين في الوظائف القيادية والإدارة الإشرافية فيتم عن طريق المسابقة باستثناء الوكيل الدائم للوزارة حيث يتم اختياره من قبل الوزير من خلال لجنة خاصة بالاختيار استناداً (17) و(18) من قانون الخدمة المدنية رقم (81) لسنة 2016.

وأما في العراق: فإن المادة (الثامنة) الفقرة (2) من قانون الخدمة المدنية المرقم (24) لسنة 1960 المعدل قد جعلت تعيين الوظائف الخاصة ووظيفة عميد ومدير عام، ووزير مفوض، ومحافظ، ومستشار محافظ من اختصاص رئيس الجمهورية بموجب مرسوم جمهوري بناءً على اقتراح من الوزير المختص وموافقة مجلس الوزراء، وبصدور قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) رقم (1077) في 31/8/1981 حدد مجموعة من الوظائف على سبيل الحصر واطلق عليه تسمية (وظائف ذات درجة خاصة، ويلاحظ  أن هنالك العديد من قرارات مجلس قيادة الثورة (المنحل) صدرت تتعلق بوظائف الدرجات الخاصة تحتاج إلى مراجعة تشريعية لتوحيد أحكامها وقواعدها وشروط شغل هذه الوظائف للاسباب الآتية :

1- لم يحدد القرار (1077) في 31/8/1981 شروط معينة لتعيين ذوي الدرجات الخاصة وهذا يتطلب تحديد شروط شخصية وموضوعية لشغل هذه الدرجات لخطورتها وإهميتها وإدخال معايير الكفاءة والجدارة والمساواة والعدالة والشفافية في اجراءات اختيار وشغل وظائف الدرجات الخاصة.

2- صدور الكثير من قرارات مجلس الثورة (المنحل) تعالج أوضاع ذو الدرجات الخاصة وتدخل بعض الوظائف في نطاق الدرجات الخاصة مما ادى ذلك إلى كثرة التعديلات والتضخم التشريعي وتضارب بعض التشريعات ومثال ذلك قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) رقم (1060) في 25/10/1976 الذي اعتبر وظيفة نائب رئيس لجنة (الطاقة الذرية) من وظائف الدرجات الخاصة، وقرار المجلس المذكور (114) في 29/4/1991 باستحداث منصب (رئيس ديوان مجلس الوزراء) في ملاك ديوان مجلس الوزراء ويكون بدرجة خاصة، وحالياً هذا المنصب لا وجود له، إذ يتولى إدارة مكتب رئيس الوزراء موظف بدرجة وزير ويتولى إدارة الامانة العامة لمجلس الوزراء موظف بدرجة وزير استناداً للمواد (28/أولاً) و(30/أولاً) من النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم (8) لسنة 2014 المنشور في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (4343) في 8/12/2014، وأيضاً على سبيل المثال قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) رقم (1350) في 29/11/1982 الذي حذف وظيفة (رئيس دائرة) في مركز وزارة الخارجية من وظائف الدرجات الخاصة الواردة في القرار (1077) لسنة 1981.

3- أهمية تحديد مفهوم الموظف ذو الدرجة الخاصة تشريعياً وتحديد الوظائف ووصف هذه الوظائف وشروط اشغالها والمؤهلات المطلوبة والخبرة الوظيفية استناداً لمبدأ الجدارة والعدالة والتدرج الوظيفي والمساواة في شغل الوظائف العامة وبعيداً عن أسس التمثيل الطائفي والولاءات الشخصية والحزبية والتمييز القومي والعنصري لشاغلي هذه الوظائف، كما أن المشرع أحياناً يسمي الوظيفة العليا بالدرجة وأحياناً أخرى بالمنصب والعنوان وبرغم وجود بعض التعريفات الواردة بنصوص تشريعية إلا أنها لا تعتبر تعاريف جامعة مانعة تعطى مفهوماً شاملاً ومتكاملاً وواضحاً للدرجات الخاصة كما أنها قد تخلط بين الدرجة الخاصة وشاغليها.

4- من مزايا جودة التشريع الانسجام والتجانس ووحدة المصطلحات، لأن الكلمات المختلفة تشير إلى معاني مختلفة وبالتالي لا يجوز استخدام المترادفات عندما نكون قاصدين نفس  المعنى ولا يجوز استعمال نفس الكلمة أو المصطلح لكي نعني اشياء مختلفة وهذه ما تسمى بالقاعدة (التدوينية الذهبية)، وهذا يقتضي توحيد مصطلح الدرجات الخاصة مع المعنى الذي يعنيه هذا المصطلح، فقانون الخدمة المدنية أطلق مصطلح (الوظائف الخاصة) وأطلق عليها مصطلح (المناصب العليا)، وأيضاً تم استخدام مصطلح (الوظائف القيادية) واستخدم المشرع مصطلح (وظائف ذات درجات خاصة)، وأيضاً مصطلح (الوظائف الخاصة) في قانون الملاك وقد ترتب على هذا القصور التشريعي خلاف على مستوى القضاء العراقي في استخدام المصطلح الدقيق للاشارة إلى هذه الوظائف، فقد استخدم مجلس الدولة مصطلح (الدرجات الخاصة) و(المناصب العليا) أو (مناصب إدارية عليا – مدير عام فما فوق) للدلالة على معنى واحد ، في حين نجد أن المشرع المصري قد وضع تعريفاً للوظائف المدنية القيادية في الجهاز الإداري للدولة والقطاع العام اذ عرفت المادة (1) من القانون رقم (5) لسنة 1991 المنشور بالجريدة الرسمية العدد (10) في 7/3/1991 الوظائف المدنية القيادية بأنها (...الوظائف التي يتولى شاغلوها الادارة القيادية بأنشطة الانتاج أو الخدمات أو تصريف شؤون الجهات التي يعملون فيها من درجة مدير عام أو الدرجة العالية، أو الدرجة الممتازة، أو الدرجة الاعلى (وما يعدالها)، كما أوردت اللائحة التنفيذية للقانون المذكور الصادرة بقرار رئيس الوزراء رقم (1596) في 28/اكتوبر/1991 في المادة (1) منها تعريفاً مماثلاً.

5- لم تعد التشريعات النافذة الخاصة بموظفي الدرجات الخاصة متلائمة ومتوائمة مع نصوص دستور العراق لسنة 2005، ومن مزايا التشريع الجيد توافقه مع الدستور، وبالرغم من أن دستور 2005 لم يتطرق لمصطلح (الدرجات الخاصة) إلا أنه أشار إلى مصطلح (اصحاب الدرجات الخاصة) في المادة (61/خامساً/ب) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005، وهو بذلك لم يفرق بين مصطلح الدرجات الخاصة وشاغليها مما دعى بعض الباحثين الى القول بأن الدستور العراقي قد أخذ بالمعيار الشخصي وليس الموضوعي لتمييز تلك الدرجات، كما أن مجلس النواب وفق دستور جمهورية العراق لسنة 2005 هو الذي أصبح صاحب الاختصاص بالموافقة على تعيين ذوي الدرجات الخاصة بعد اقتراحهم من الجهات ذات العلاقة وضمان توفر شروط التعيين العامة وشروط التعيين الخاصة بكل درجة خاصة حسب طبيعة مهام هذه الدرجة، ولم يعد اختصاص التعيين منوطاً برئيس الجمهورية كما هو الحال في ظل التشريعات السابقة لعام 2003 وخصوصاً بعد استحداث الكثير من الهيئات المستقلة والمفوضيات والمؤسسات والهيائات العامة، حتى أن رئيس الجمهورية لم يعد يملك صلاحية ترشيح شغل وظائف الدرجات الخاصة في ديوان رئاسة الجمهورية لأن المشرع لم يستثني ترشيح وظائف الدرجات الخاصة في الديوان المذكور من ترشيح وتوصية مجلس الوزراء ولو أراد ذلك لنص على ذلك صراحة في المادتين (61) و(73) من الدستور كما فعل في الفقرة (ثانياً) من المادة (91) من الدستور بالنسبة للسلطة القضائية ، وهذا ما اشارت له المحكمة الاتحادية العليا في قرارها (43/اتحادية/2009) في 20/7/2009 .

6- ضرورة تقييد السلطة المطلقة للحكومة بشروط ومعايير عند اختيار موظفي الدرجات الخاصة لأن القول بخلاف ذلك من شأنه تفتيت الوحدة الوطنية وخرق لمبدأ سيادة القانون الذي يعتبر من أهم ركائز الحكم الرشيد، كما أن هذا الاسلوب يؤدي إلى إزاحة الجهاز الإداري المحترف واستبداله بقيادات إدارية غير كفوءة وهذا يؤدي إلى نشوء صراع هدام من شأنه تحريك الخلافات وعدم التعاون بين الادارات العليا والادارات الوسطى والادارات الإشرافية والمرؤوسين ناهيك عن الصراعات الشخصية التي قد تتحول إلى صراعات جماعية بسبب اختلاف منظومة إدراك شاغلي الدرجات الخاصة والقيادية بسبب تأثير ولاءاتهم وانتماءاتهم السياسية التي تجعلهم يرون نفس الظواهر بأشكال مختلفة واتخاذ قرارات متباينة بسبب تباين الاراء والمفاهيم والمعتقدات تكون سبب للصراع التنظيمي داخل الوزارات والمؤسسات والهيئات العامة.

8- وجوب تقليل الامتيازات المالية لذوي الدرجات الخاصة الى الحدود المناسبة التي تحول دون خلق نوع من الطبقية داخل الوظيفة العامة التي من شأنها إشاعة التذمر في صفوف صغار الموظفين وهذا يقتضي تقليل الفروقات الى الحدود المقبولة عملاً بمبدأ المساواة وهذا لا يتعارض مع المسؤوليات الملقاة على عاتقهم لأن الوظيفة تكليف وطني وخدمة اجتماعية لامتيازات مالية.

9- تطوير نظام للمساءلة كضمان لالتزام ذو الدرجات الخاصة بالقانون وتحسين الأداء وهذا يتطلب العمل في بيئة من الشفافية لكافة الإجراءات والآليات والقرارات المتعلقة باختيار ذوي الدرجات الخاصة وامتيازاتهم وحقوقهم وواجباتهم لتكون متاحة ومنظورة ومفهومه اشبه بصندوق زجاجي يرى الجميع بوضوح ما يدور بداخله من مهام وبرامج وعلاقات لضمان النزاهة والقضاء على الفساد الإداري والمالي وتحقيق الصالح العام. 

واخيراً لابد من الإشارة إلى قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم (79/اتحادية /2019) في 28/10/2018 الذي الغى الفقرة (6) من القرار التشريعي رقم (44) لسنة ٢٠٠٨ الذي تضمن اتفاق تقسيم الوظائف العليا في الدولة العراقية بين القوائم والكتل السياسية معتبرا ذلك استحقاقا انتخابيا من وكلاء الوزرات ورؤساء الهيئات والمؤسسات والدرجات الخاصة كون هذا الاتفاق مخالف المادة(14) من دستور جمهورية العراق لسنه 2005 التي كفلت حق المساوات بين العراقيين امام القانون والمادة ،(16) الخاصة بتكافؤ الفرص...، كما أن القوائم والكتل السياسية ليست جهة مختصه بترشيح هذه الوظائف المنصوص عليها في المادة (61/خامسا) من الدستور.. ورغم كون قرارات المحكمة الاتحادية العليا باته وملزمه السلطات كافه استنادا للمادة (94) من الدستور إلا أن هذا القرار لم ينفذ لحد الآن ولازالت الترشيحات للوظائف العليا تتم وفقا لاعتبارات حزبية وسياسية بصورة مخالفه للدستور. 

لما تقدم ندعو المشرع العراقي ومجلس الخدمة الاتحادي إلى الاستفادة من هذه الملاحظات التي تمثل نقاط ضعف في النظام الوظيفي العراقي والتدخل الفعال في تنظيم الوظائف العليا من شروط الترشيح والاختيار والنافسة والتعيين وتحديد هذه الوظائف بدقه مع وصفها الوظيفي وترشيد رواتبهم وامتيازاتهم المالية وتوحيدها... وغيرها من التفاصيل والاهم اخراج الوظائف العليا من دائرة المحاصصة وادخالها الى دائرة الاحتراف الوظيفي والمهنية والشفافية عندها نكون قد حققنا احد مداخل الاصلاح الوظيفي للقيادات الادارية العليا ... وليس ذلك لمن يريد ببعيد.

اهلاً بكم في مدونة المرشد القانوني

نلفت أنظاركم إلى مستودع في غاية الأهمية على منصة التيليجرام علمًا هو متخصص بإرفاق المصادر القانونية من حيث المعاجم والكتب والمجلات والاطاريح والرسائل.

حسناً