تعرف المرافعة لغة بأنها رفعة أي شكاة إلى الحاكم قدمه إليه, ترافعا إلى الحكم تحاكما, وجاء في المعجم الوسيط (المرافعة: إجراءات مقررة لتصحيح الدعوى والسير فيها, وقانون المرافعات قانون ينظم الإجراءات التي تتبع في رفع الدعوى أمام المحاكم). وينتقد الفقه هذه التسمية إذ أن عبارة ((المرافعات)) تعني في اللغة الدارجة ما يدلي به الخصوم أو وكلائهم من أقوال أمام المحكمة لتأييد دعواهم أو دفوعهم وتقصر بالدلالة على كافة مواضع قانون المرافعات, وقد أقترح تسميتها بـ (قانون الإجراءات المدنية) وهي تسمية قريبة من الإصطلاح الفرنسي (Procedur) والاصطلاح الإيطالي (Diritto procedure civile) ولكن لوحظ بحق أن هذه التسمية الجديدة ما زالت أضيق من المعنى المقصود فهي لا تغطي قواعد النظام القضائي وقواعد القضائي الخاص. والحقيقة أن هذه المسألة اصطلاحية بحتة, وفي الاصطلاح تؤخذ الألفاظ بمعناها المتفق عليه بصرف النظر عن معناها اللغوي, ولذا فإن اصطلاح ((قانون المرافعات)) يمكن أن يؤدي الغرض منه طالما كان متفقًا عليه أن المقصود به هو القانون الذي ينظم القضاء في المعاملات الخاصة.
لذا يمكن تعريف قانون المرافعات بأنه مجموعة من القواعد القانونية التي تبين التنظيم القضائي للدولة وتحدد إجراءات التقاضي أمام محاكمها المدنية والتي تكون مكفولة بجزاء يضمن لها الاحترام. ويتضح من هذا التعريف ما يلي:
أولاً: إن قواعد قانون المرافعات هي مجموعة من القواعد المنظمة لوسائل الحماية القضائية للحقوق, ولما كانت هذه الحماية تعتبر من أهم المهام القانونية للدولة لذا فإن قانون المرافعات يعتبر قانون النشاط القضائي للدولة.
ثانيًا: إن قانون المرافعات يكون مع قانون آخر مرتبط به وهو قانون التنظيم القضائي في العراق وقانون السلطة القضائية في بقية الأقطار العربية, تنظيمًا شاملاً للقضاء المدني في سكونه وحركته, ولذا فهو يشتمل على الموضوعات التالية:
1- التنظيم القضائي: حيث يبين كيفية تنظيم المؤسسات القضائية بإيضاح ترتيب المحاكم والتقسيمات والقواعد المتعلقة بخدمة القضاة بتحديد رواتبهم وصنوفهم وترفيعهم وترقيتهم وإحالتهم على التقاعد, والقواعد المتعلقة بمحاسبتهم انضباطيًا عن أخطائهم المهنية.
2. الاختصاص القضائي: إن قواعد قانون المرافعات هي التي تحدد الاختصاص الوظيفي والنوعي والمكاني لكل محكمة بمختلف درجاتها.
3. إجراءات التقاضي: ينظم قانون المرافعات إجراءات التقاضي أمام مختلف المحاكم اعتبارًا من تاريخ رفع عريضة الدعوى أو الطعن إلى حين اكتساب الحكم درجة البتات. وهنالك قوانين أخرى لها علاقة وثيقة بقانون المرافعات وهي (قانون تنفيذ الأحكام الاجنبية, قانون تنظيم المحاكم الدينية للطوائف المسيحية, قانون أصول المحاكمات للطوائف المسيحية, قانون الخبراء, قانون تصديق التواقيع على المستندات والوثائق العراقية, قانون المحاماة, قانون الكتاب العدول, قانون الإشراف العدلي, قانون الادعاء العام, قانون التنظيم القضائي, قانون الإثبات, قانون الرسوم العدلية, قانون العمل).
أما تنفيذ الأحكام فلا يدخل في العراق ضمن الأمور التي ينظمها قانون المرافعات بل ينظمه قانون مستقل هو قانون التنفيذ رقم (45) لسنة 1980. والتنفيذ مناط بجهات عدلية وليست قضائية على خلاف الحال في أغلب الأقطار العربية حيث تكون قواعد التنفيذ جزءًا من قانون المرافعات, وتناط مهمة التنفيذ بقاضي التنفيذ.
ودراسة قانون المرافعات وإيضاح قواعده تقابل صعوبات لا تعرض لفقهاء القانون الموضوعي للاعتبارات التالية:
اولاً: إن إجراءات التاقضي في قانون المرافعات متنوعة ويقوم بها أشخاص عديدون, فيقوم ببعضها موظفون عامون مثل القاضي والمعاون والمبلغ, وبعضها يقوم بها الخصوم أو وكلاؤهم من المحامين, وقد يقوم بها الغير كما في الشهادة والخبرة.
ثانيًا: إن هذه الإجراءات متصلة ببعضها بحيث تترتب كل منها على الأخرى فهي مكلمة لبعضها متكاملة معها, تبدأ من يوم إقامة الدعوى إلى حين اكتساب الحكم الصادر فيها درجة البتات ولذا فهي تختلف عن التصرفات القانونية الموضوعية التي تتسم بالاستقلال الذاتي.
ثالثًا: إن المبدأ العام في نطاق قواعد قانون المرافعات, هو أن جميع ضروب النشاط القانوني في نطاقها يلزم كقاعدة عامة أن تتم ليس تبعًا للوسيلة التي يختارها من يقوم بها, بل بمقتضى الوسيلة والأسلوب الذي يحدده القانون في حين أن إجراء تصرف ما في نطاق القانون الموضوعي تحكمه كمبدأ عام قاعدة الرضائية.
وإلى جانب قواعد قانون المرافعات توجد قواعد أصول المحاكمات الجزائية ويختلفان عن بعض ما يلي:
1- اختلاف الحق محل الحماية, فالإجراءات الجنائية ترمي إلى تحقيق حماية المصلحة العامة, أما قواعد قانون المرافعات فإنها تهدف بالدرجة الأولى إلى حماية المصالح الخاصة.
2- اختلاف الجزاء, فالقضاء الجنائي عن طريق تطبيق قواعد أصول المحاكمات الجزائية يحقق حمايته عن طريق عقاب مخالف القاعدة القانونية, في حين أن القضاء المدني يحقق حمايته عن طريق إصلاح نتائج المخالفة.
ويؤدي اختلاف المصلحة محل الحماية القضائية في كل من القضائيين إلى اختلاف بينهما في الوسائل, فالقضاء المدني كمبدأ عام لا يمارس إلا بناء على طلب, أما القضاء الجنائي فإنه يمارس بناء على طلب الإدعاء العام والمخبر والمدعي بالحق المدني ... الخ. ويسوده مبدأ النشاط التلقائي أي اتخاذ القاضي للإجراءات من تلقاء نفسه وتمتعه بسلطات واسعة.
مع العلم أن قانون المرافعات المدنية هو المرجع لكافة قوانين المرافعات والإجراءات إذا لم يكن فيها نص يتعارض معه صراحة. والمقصود بهذا النص أن جميع قوانين المرافعات والمحاكمات الأخرى وكذلك القوانين الخاصة التي تضم قواعد للإجراءات تعتبر قانونًا خاصًا بالنسبة لهذا القانون الذي يعتبر هو القانون العام للإجراءات, فإذا لم يوجد نص في أي قانون خاص بالإجراءات أو وجد نص ولكنه ناقص أو فيه غموض أو عدم وضوح فيجب الرجوع إلى قانون المرافعات المدنية.
ومن العرض السابق يتضح لنا مدى أهمية وضرورة القواعد والإجراءات التي يتضمنها قانون المرافعات، فضرورتها متأتية من ضرورة القانون في حياة المجتمع كوسيلة لإحقاق الحق. فمن المعلوم أن هنالك تلازمًا في الوجود بين الفرد والمجتمع والقانون باعتباره ظاهرة إنسانية. فالفرد يولد في مجتمع ولا يمكن أن يعيش إلا فيه والعناصر المكونة للمجتمع هم افراده. ويقول العلامة أبن خلدون في مقدمته (الإنسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الإجتماع والعيش مع بني جنسه...). ويمكن أن يضاف على هذا أيضًا بأن عقوبة السجن الانفرادي تعتبر من أقسى العقوبات وأشدها وطأة على المحكوم عليه.
ولما كانت مقتضيات العيش في المجتمع تستلزم أن يتعامل الفرد مع غيره، وأن هذا التعامل يؤدي إلى نشوء علاقات متبادلة، ومن الجلي أن هذه العلاقات تقضي إلى تشابك وتعارض في الحقوق، وهو أمر يتناسب طرديًا في تشعبه وتباينه مع درجة الرقي الحضاري للمجتمع الإنساني وأن من البديهي أن يؤدي هذا التشابك والتعارض في الحقوق عند غياب القاعدة القانونية الملزمة إلى اضطراب في العلاقات الإجتماعية يتمثل ذلك في قيام كل فرد بإستخدام كل إمكانياته للذود عن حقوقه، بل وفي سلب حقوق الآخرين، الأمر الذي يجعله يتملك من الحقوق بقدر ما له من قوة أو سلطان، ومع كل صفات الأثرة والطمع وحب الذات التي جبلت النفس الإنسانية عليها. لا ريب أن هذا أمرًا ليس في صالح المجتمع، فهو بالإضافة إلى إخلاله بالأمن الإجتماعي، فإن نتيجته انتصار الأقوى وليس المحق.
وثمة فرق كبير بين أن ينتصر الأقوى أو ينتصر المحق، وحتى لو كان الأقوى هو صاحب الحق، فليس هنالك من ضمان في أنه سوف يلتزم حدود حقه، الأمر الذي يؤدي إلى الفوضى في العلاقات الإجتماعية. ولهذه الفوضى مردوداتها السلبية على النظام الإجتماعي والأمن العام والمراكز الاقتصادية. وهذه حالة يجب ألا تدوم، وأن عدم دوامها يتحقق عن طريق وضع القواعد والضوابط الملزمة التي تقتضيها مستلزمات الحياة الإجتماعية، وتتجسد في تحديد وتنظيم حسن إستعمال الأفراد لحقوقهم المشروعة كيما ينال كل ذي حق حقه.
وتأتي قواعد قانون المرافعات في القضاء المدني لتبين ذلك. فقواعد هذا القانون المتعددة إذا دققنا النظر فيها وجدنا أن محصلة غايتها النهائية هي السعي لحسن تطبيق القانون بأسلوب يتسم بتكافؤ الفرص أمام الخصوم في الإدعاء والدفع بوجود قاضٍ يلزمه القانون بتوخي تحقيق العدل من خلال تتابع زمني ومنطقي لقواعد التقاضي. إن هذه الغاية بحد ذاتها تبين مدى ضرورة قواعد التقاضي لتوكيد النظام القانوني كقاعدة عليا للحياة الإجتماعية, وهو يمثل الأمل الدائم للأفراد ضد أي اعتداء من جانب أي شخص.
وقد نبه إلى هذه الناحية الهامة الكثير من الفقهاء المسلمين فيقول أبن فرحون في هذا المجال:
(علم القضاء من أجل العلوم قدرًا وأعزها مكانًا وأشرفها ذكرًا لأنه مقام علي ومنصب نبوي، به الدماء تُعصم وتُفسح والابضاع تُحوم وتُنكح والأموال يثبت ملكها أو يسلب والمعاملات التي يعلم ما يجوز منها ويحرم ويكره ويندب....). ومن هذا يتضح أن إجراءات التقاضي هي أداة تطبيق القانون بواسطة القضاة، وهذه إحدى وأهم وظائف الدولة المعاصرة.