إن توفير الحماية القضائية للحقوق يتم بتطبيق قواعد وإجراءات قانون المرافعات وبهذا يتأكد وجود الحق وتعطى له قيمته، وهو ما يكفل لصاحبه حسن التمتع بمزايا هذا الحق في إطار الهدف الإجتماعي له. ولأجل تحقيق هذا الأمر فإن هذا القانون قد قام على أسس معينة وحددت له أهداف أبتغي من مجملها تحقيق الحماية القضائية بأيسر طريق وأقل جهد ونفقة مالية ومنها تبسيط الإجراءات الشكلية في العمل القضائي.
فالشكلية في الإجراءات القضائية ليست أمرًا مستحدثًا بل هي قديمة قدم العمل القضائي ذاته. وقد برزت شكلية الإجراء في القوانين البدائية بالتفكير الوثني الذي يهتم بالمظاهر الجمالية، ويرى أهمية العمل القضائي في مظهره المرئي. فلو رجعنا إلى الإجراءات القضائية في القانون الروماني في عهد دعاوى القانون لرأينا المراسيم والرموز والشكليات تسيطر على وجود الحق وعلى الإدعاء به أمام القضاء. وقد حدد الفقيه الروماني (كايوس) صفات هذه الدعاوى بثلاث صفات وهي (الرمزية، القانونية، القضائية).
١- الرمزية: ويعني هذا أن أساليب هذه الدعاوى خاضعة لألفاظ وحركات محددة، ترمز إلى طابع قدسي يوجب الاعتداد بها وإلا بطلت الدعوى.
٢- القانونية: والمقصود بذلك أن الدعاوى التي تقبل أمام القضاء يحددها القانون سلفًا، وكانت في قانون الألواح الاثني عشر أربع دعاوى هي دعوى القسم, ودعوى المطالبة بقاضٍ أو حكم, ودعوى وضع اليد على الشخص، ودعوى قبض الرهن.
والاثنتان الأوليان هما من دعاوى الحكم التي تستهدف إيجاد حل قضائي للنزاع. وأما الأخريان فهما طريقتان قانونيتان للتنفيذ ولكنهما يدخلان في مفهوم الدعوى في اصطلاح الحقوق الرومانية القديمة. وقد أحدثت دعوى خامسة بقانون بعد قانون الاثني عشر أسمها (دعوى الإنذار) وهي من دعاوى الحكم في الخصومات.
٣- القضائية: وهي السمة الملازمة للدعاوى القانونية بسبب خضوعها للنظام القضائي الخاص. وقد أدى هذا إلى أن تسود الشكلية في الإجراءات القضائية فقد كان على الأفراد التفوه ببعض العبارات الرسمية التي كان الكهنة يحتكرون معرفتها. وقد ترتب على الشكلية التي كانت تسود نظام الدعاوى أن أي خطأ في أداء صيغتها يعرض الفرد لضياع حقه. ويعطينا الفقيه (كايوس) مثلاً على ذلك في كتابه النظم من أن أحد الأشخاص أراد رفع دعوى قطع الأشجار ضد من قطع كرومه، ولكنه خسر دعواه لأنه بدلاً من أن يذكر في الصيغة التي تلاها كلمة (أشجار) ذكر كلمة (كروم). ثم خففت هذه الشكليات في العصر العلمي بظهور نظام الدعاوى الكتابية.
أما في نطاق الشريعة الإسلامية الغراء، فلم تعرف هذه الشكلية، فأي دعوى توفر فيها شرط المصلحة المشروعة يلزم قبولها من قبل القاضي، دون تحديد لنوع الدعاوى أو عددها. فأظهر سمة لهذه الشريعة هو تجردها من الأمور غير المعقولة والشكليات غير المنطقية والتي كانت من الصفات الرئيسية لما سبقتها من قوانين وضعية. لذا اتسمت إجراءات التقاضي في ظل الشريعة الإسلامية باليسر وقلة التكاليف مما أتاح للقضاة أن يقدموا لنا أروع صفحات العدل التي تعد من خيرة مفاخر هذه الأمة.
وقد امتدت هذه الشكلية إلى قانون المرافعات المدنية الفرنسي باعتباره امتدادًا للقانون الروماني ووريثًا له وعن طريق قانون المرافعات الفرنسي انتقلت هذه الشكلية إلى جل قوانين المرافعات في الأقطار العربية الحالية باعتبار أن ذلك القانون المصدر الرئيسي لهذه القوانين. ويوصف قانون المرافعات اليوم بأنه قانون شكلي،وهذا قول غير دقيق من جهة ودقيق من جانب آخر.
فهو غير دقيق إذا قصد به أن قواعد المرافعات تقتصر على تنظيم شكلية الإجراءات القضائية فحسب. وهو دقيق إذا قصد بالكلية وسيلة الحماية القضائية، فقانون المرافعات ينظم شكل الحماية القضائية بينما يعتبر القانون الموضوعي غايتها. فقانون المرافعات يحدد البيانات التي يلزم أن تتضمنها الأوراق القضائية كعريضة الدعوى وورقة التبليغ وعريضة الطعن بالأحكام، كما أنه يحدد بدقة مواعيد القيام بالإجراءات القضائية والمكان الذي يلزم أن تباشر فيه هذه الإجراءات.
وتبرر الشكلية في هذه الحالة بأنها تحقق النظام القانوني في حركته الدائمة لتوفير الحماية القضائية، مما يشيع الطمأنينة والثقة فيه، ويضمن ما يحقق صحة وعدالة الإجراءات القضائية، ويمنع تحكم القاضي وانحيازه، ويضع حدًا لكيد وتعسف الخصوم ومماطلتهم. حيث يقول الدكتور وجدي راغب في هذا الصدد: (وقد بررت الشكلية بأنها تمثل لجامًا فعالاً لانفعال الأفراد في صراعهم من أجل الحق وذلك بتهدئة عواطفهم الثائرة وتصريفها نحو الاهتمام بالشكليات الدقيقة، حيث يتعرضون لخطر فقدان الحق لأقل خطأ فيها).
ولكن مع هذا فإن قانون المرافعات لا يقتصر مضمونه على الناحية الشكلية فقط بل أنه ينظم العناصر الموضوعية للإجراءات مثل شروط قبول الدعوى والطعن وقواعد تسبيب الأحكام. كما يلاحظ أن بعض القوانين الموضوعية تتضمن قواعد شكلية مثل القانون المدني مثلاً حيث تنص المادة (90) من القانون المدني العراقي (1- إذا فرض القانون شكلاً معينًا للعقد فلا ينعقد إلا باستيفاء هذا الشكل ما لم يوجد نص بخلاف ذلك. 2- يجب استيفاء هذا الشكل ايضا فيما يدخل على العقد من تعديل). وكذلك نص المادة (508) من هذا القانون (بيع العقار لا ينفقد إلا إذا سجل في الدائرة الخاصة واستوفى الشكل الذي نص عليه القانون). وكذلك نص المادة (602) والمادة (1286) من القانون المذكور.
والشكلية في قانون المرافعات مقررة لصحة الإجراء القضائي وليس لإثباته وبتالي فهي ركن من أركانه, وعليه فإنه لا يجوز تكملة ما يشوب الإجراءات القضائية من نقص عن طريق الإثبات كشهادة الشهود أو اليمين.
ورغم كل التبريرات التي قدمت فإن الشكلية تلاقي نقدًا متزايدًا في العصر الحديث. فقد قيل عنها بأنه جملة عراقيل تحول دون سرعة وسهولة حسم الدعوى وتسهيل إثبات الحقوق. إذ تؤدي إلى أن يفقد الأفراد حقوقهم لمجرد أنهم لم ينتبهوا إلى الشكل, مما يتعارض مع مستلزمات تحقيق العدل. كما يمكن أن تؤدي إلى بطئ في الإجراءات مما تجعل صاحب الحق يضطر إلى التضحية بشطر من حقه بالصلح مع خصمه دون الإلتجاء إلى القضاء وهذا يتعارض مع مبدأ أساسي وهو تحقيق القضاء العادل العاجل. وفي هذا الصدد تقول المذكرة الإيضاحية لقانون المرافعات المدنية المصري لسنة 1968 النافذ حاليًا: (..... كذلك فلئن كانت التشريعات الموضوعية هي مواطن العدل بمضمونه وفحواه فإن التشريعات الإجرائية هي آلية الطريق والأداة, ذلك أن الرسالة الأولى والأخيرة للتشريعات الإجرائية أن تكون أداة طيعة ومطيعة ذلولاً لسهل المنال, مأمون الطريق لا يحفل بالشكل ولا يلوذ به إلا مضطرًا يصون به حقًا أو يرد باطلاً...).
ولكن ينبغي التمييز بين الشكل الإجرائي للعمل القضائي وبين شكلية الإجراء. فالأول يتحقق لمجرد التنظيم التشريعي لإجراءات العمل القضائي, أما شكلية الإجراء القضائي فتعني أن المشرع لا يكتفي بوضع نظام لسير الإجراءات, بل يحدد شكلاً لكل إجراء على حدة. وهذا يعني بطبيعة الحال جمود الشكل الإجرائي للعمل القضائي بينما تقتضي مرونته إمكانية أدائه بأكثر من طريقة.
ولهذا فإن الشكلية في الإجراءات القضائية, يجب أن لا تؤدي إلى جمود الشكل الإجرائي للعمل القضائي, وتكون عبئًا ثقيلاً على عاتق المتقايضين لما تحويه من تفاصيل دقيقة يصعب الإحاطة بها على غير المتخصصين. ويؤدي الخطأ فيها إلى حجب الحماية القضائية عن الكثير من المتقايضين وهو ما يؤدي في النهاية إلى إهدار الحقوق وضياع الثقة بالقضاء, هذا من جانب ومن جانب آخر فإن من الواضح أن تنظيم الطريق الذي يلزم أن يسلكه القاضي والخصوم للوصول إلى العدل لا بد له من إجراءات معينة وربط هذه الإجراءات بالمرونة مما يؤدي إلى أن تكون عاملاً من عوامل الثقة والطمأنينة وعنصرًا من عناصر الإئتمان بالنسبة للحقوق والمراكز القانونية القانونية, فهي تحول دون تعسف أو كيد الخصوم في إستعمال حق التقاضي, وتمنع تحكم القاضي أو تسرعه مع إعادة التأكيد على عدم المبالغة في هذه الشكلية بتعقيد الإجراءات وإطالتها دون مبرر أو ضرورة.