متى يقبل المحامي الدعوى؟ ومتى يرفضها؟ - المرشد القانوني

متى يقبل المحامي الدعوى؟ ومتى يرفضها؟

هذا موضوع واسع الأفق دقيق للغاية، لا قواعد له مكتوبة، ولا ضوابط مرسومة. وإذا كان لا بد من وضع قاعدة له فإن قاعدته الأساسية هي الحق والضابط الرئيسي لرسم خطوطه البيانية هو الوجدان، فمن بديهي القول أن المحامي ليس في مقدوره أن يسر غور الزبون، وبغوص إلى أعماقه ليستشف بواطن أمره، ويكشف مكونات سره، ثم يستتبط بعد ذلك منه الحقيقة, وليس في مقدوره كذلك أن يقرر من دراسة الأوراق، وبيانات الزبون، واستعراض الوقائع أنه قد توصل الى حقيقة فقد تكون الحقيقة محتجزة وراء ستار كثيف أو كامنة في طي سر دفين. فكل ما هو مطلوب من المحامي عمله في تحريه عن الحقيقة بعد الدرس والاستقصاء والتأمل هو أن (يقتنع) بأن ما توصل إليه من رؤى هي الحقيقة وما يقرب من الحقيقة.


- إن كانت الدعوى حقوقية: 

فإن كانت صفة الزبون فيها مدعی جاز للمحامي التوكل فيها على ضوء الحقيقة التي توصل إليها. أما أن طلب الزبون اليه العمل على خلاف ذلك أمتنع عليه أنذاك التوكل فيها. أما إذا طلب الزبون إليه أن يسير في دفع الدعوى على أساس باطل، أو مغاير للحقيقة فعندئذ لا يجوز له التوكل فيها ... وأن هو سار فيها على الأساس الصحيح إبتداء ثم مال الزبون بعدئذ إلى الباطل وعمد إلى الزوغان عن الحق فعليه أن ينسحب من الدعوى حفاظًا على امانة المحاماة, وفي هذه الحالة حالة الانسحاب من الدعوى للسبب المذكور لا يصح للمحامي مباهاة أن يعلن عن السر في انسحابه من الدعوى لأنه يكون قد جنى على موكله بأن أعطى الحاكم سلاح القناعة بأن موكله مبطل في دفعه وأن مصير الدعوى لن يكون غير الخسران. وهذا ليس من أدب المحاماة في شيء ولا من واجب سرية العمل المطلوب من المحامي التقيد به تقيدًا مطلق تصريحًا أو تلميعًا. وخير سبيل لانسحاب المحامي هو أن لا يعلن عن رغبة في الانسحاب في المحكمة ويكون انذاك في حرج وإنما يفاتح بذلك زبونه ويطلب إليه أن يتولى هو مهمة الدعوى بالشكل الذي يشاؤه.

قلت أن هذا الموضوع دقيق للغاية والدقة فيه تأتي من ظروف وملابسات قد لا تدع للقانون أو المنطق أو للقناعة محلاً وقد ينهار كل ذلك جملة أمام الواقع ولكي أوضح مرادي من ذلك أورد الواقعة التالية: 

راجعني زبون أرسله صديق لي وطلب إلي التوكل في الدعوى المقامة عليه في محكمة بداءة بغداد وكانت المحكمة يومها مؤلفة من هيئة قوامها ثلاثة حكام وكانت الدعوى تتضمن كون المدعي شريكًا للمدعى عليه في (بنزين خانة) يقوم هو بتموينها بالبنزين، ويقوم المدعى عليه ببيع البنزين وما يأتي من ربح يقتسمانه بينهما مناصفة، وحيث أن المدعى عليه قد تسلم كميات معينة من البنزين وباعها وكان ربحها محددًا فالمدعي يطلب حصته من ذلك الربح فسألت المدعى عليه الأسئلة التالية:

قلت هل أنك استلمت حقيقة كل هذه الكميات من البنزين؟ - فقال: نعم.

قلت وهل أن الربح يقتسم بينكما مناصفة؟ - فقال: نعم.

قلت وهل أن الحساب لم يجري بينكما عن هذه الكميات ولم تدفع لشريكك حصته من الربح؟ - فقال: نعم.

فقلت الدعوى إذن صحيحة، والمبلغ المطالب به صحيح؟ فقال نعم ! قلت إذن لماذا تراجعني؟ وبماذا تريد أن أدافع عنك؟ قال: لماذا إذن جئت إليك؟ أليس لغرض تخليصي من الدعوى؟ فأفهمته بإن تخليصه من الدعوى لا يكون بالباطل وما دمت قد اعترفت لي بأنك مدين حقًا ليس لي من سبيل للدفاع عنك لهذا أعتذرت من التوكل في الدعوى ونصحته بأن يتصالح مع خصمه, فالصلح أولى وقلت له ربما كسبت في الصلح ما لم تكسبه في الحكم ... وذهب.

وبعد أيام جائني والبشر يطفح على وجهه، مخاطبًا أياي مخاطبة المنتصر للمخذول؟؟ (تقول يا أستاذ أن الدعوى لا تنجح؟ لقد نجحت فيها وصدر الحكم بردها !!), فأستغربت من ذلك وأردت أن اتبين صحة الخبر من عدمه والسر في هذا التطور الغير المعقول ! فرجعت إلى إضبارة الدعوى فوجدت أن الحكم قد تضمن ردها حقيقة. وعند مطالعتي للسبب ماذا تبين؟ تبين أن محامي المدعي قد قال اثناء المرافعة قولاً يناقض ما جاء في عريضة الدعوى وأن وكيل المدعى عليه قد تمسك بالتناقض وطلب رد الدعوى لهذا السبب, فردت. فهل كان في أمكاني إبتداء أن أستطلع الغيب!! وانتظر (غفلة) الزميل المحترم! لأن يقول قولاً يناقض به كلامه المحرر بقلمه في عريضة الدعوى ثم أقرر التوكل في الدعوى على ذلك الأساس الموهوم. بالطبع لا ولكن الأمر قد وقع فعلاً، ووقع لا بنتيجة العلم وإنما بنتيجة (اليانصيب) وما أكثر قضايا النصيب في سوح القضاء !!.


- أما إذا كانت الدعوى جزائية:

فأما أن تكون صفة الموكل في الدعوى مشتكيًا وأما أن تكون صفته متهمًا, فإن كان مشتكيًا جاز التوكل عنه إذا كان محقًا في شكواه, أما إذا كانت الشكوى كاذبة، أو ملفقة أو كيدية فلا يجوز للمحامي أن يكون أداة للشر فيها، بل عليه أن يرفض التوكل في الدعوى. وأما إذا كان متهمًا ففي الأمر تفصیل:

1- الأصل أنه مما يسوغ للمحامي أن يتوكل مطلقًا عن كل منهم مهما كانت تهمته، ومهما كانت ظروفها، وبواعثها، ونتائجها ... فالمتهم أن كان بريئًا فالسعي للتخليص البريء من الجرم والعقاب هو هدف نبيل من أهداف المحاماة. والمتهم أن كان مذنبًا حقًا، فإن ضمير العدالة كما هو يتعذب عند أفلات الجاني من العقاب، يتعذب كذلك عندما يصيبه من العذاب أكثر مما يستحق, ففي الحالتين السالفتين يجوز للمحامي أن يتوكل عن المتهم.

2- أما إذا أعترف المتهم للمحامي بأنه هو الذي أرتكب الجرم فلا يسوغ له ابدًا أن يطلب براءته .. فمن طلب براءة المجرم، فقد أرتكب بدوره جرمًا آخر, وفي الحالة الأخيرة إذا ما استطاع المحامي أقناع موكله لا يطلب البراءة، وإنما بطلب العقاب المناسب أو تخفيف العقاب إذا ما توفرت أسباب التخفيف جاز للمحامي السير في مهمته على هذا الأساس وعندئذ يكون هم المحامي منصبًا على التماس الاسباب الداعية للعقاب العادل. 

3- ولا يفوتني هنا الإشارة إلى (النصيب) في القضايا الجزائية كما الحال في القضايا الحقوقية بل ربما كان النصيب في ميدان القضاء الجنائي أوفر نصيبًا من النصيب في القضاء الحقوقي, فقد تسير في الدعوى على أساس أن الجرم ثابت، والعقاب محتوم وهمك منصرف إلى البحث في تلمس عوامل الرحمة والظفر بأسباب التخفيف وإذا بالنصيب بفعله بغتة يتناقض الشهود أو تتهافت الأدلة أو يظهر ما ليس في الحسبان فتتحول قناعة الحاكم إلى جانب المتهم، وتلوح بارقة البراءة فماذا يفعل؟ 

- هل تقول إن موكلي بريء؟ - لأ ! فإن ذلك كفر لانك مقتنع بأنه مجرم.

- هل تقول إذن إن موكلي مجرم؟ - أعوذ بالله ! فأنت وكيل عن المتهم لا خصم له.

الأولى لك أن تخرج من هذه الورطة بأن تترك المتهم لذمة الحاكم يقضي بأمره على ضوء ما أستجد من أمور، وتوفر من قناعة. وليس معنى التوفر على ركن القناعة أن يقوم المحامي بدور الخصم في ماقشة موكله, وأنما حسبه أن يحاول بسلامة وبساطة معرفة الحقيقة منه دون ضغط أو مشاطرة أو لجاجة فليس من شيمة المحاماة أن تقف من موكلك موقف الخصم، فتحاول أن تنزع منه الاعتراف انتزاعًا, وليس هذا فقط فاللجاجة في هذا السبيل الملتوي، لن توصل المحامي إلا إلى مرحلة الاحراج, ذلك أنه إذا استطاع أن ينتزع من موكلة اعترافًا بارتكابه الجرم, فقد وضع نفسة موضع الحراجة .. حراجة من لا يستطيع أن يطلب براءة موكله بعد أن افضي إليه موكله بالاعتراف.


- أما في القضايا السياسية:

فلا يطلب المحامي أن يخوض في الأسس والتفاصيل لكي يصل إلى قرار في التوكل أو عدمه, فأن بعض الحالات السياسية تلجؤه إلى التوكل بصرف النظر عن التفاصيل والنتائج, وقد لا تسمح ظروف خاصة للمحامي بمواجهة موكله, بل لا يسمح له حتى بمطالعة أوراق القضية. فهل هو في هذه الحالة يتخلى عن واجب الدفاع ؟ بداعي أنه لم يدرس الدعوى دراسة تبيح له التوكل، أو الاعتذار؟

في حالة مثل هذه يسمح للمحامي أن يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع، ويقبل الوكالة في الدعوى ويسير فيها على حسب الظروف المتيسرة له وفي المرافعات، وفي بيانات الشهود، وفي المناقشات تتكشف له مغاليق الدعوى، وعندها يجند مواهبه، ويستخدم قابلياته الفنية في توجيه الدفاع ما أمكن توجيها سليمًا.


- المصدر : المرشد العملي للمرافعة والطعن أمام المحاكم الجزائية.

- المؤلف : المحامي مكي عبد الواحد كاظم.

- الصفحة : 67 - 72.

اهلاً بكم في مدونة المرشد القانوني

نلفت أنظاركم إلى مستودع في غاية الأهمية على منصة التيليجرام علمًا هو متخصص بإرفاق المصادر القانونية من حيث المعاجم والكتب والمجلات والاطاريح والرسائل.

حسناً