المبادئ القانونية العامة كمصدر من مصادر المشروعية - المرشد القانوني

المبادئ القانونية العامة كمصدر من مصادر المشروعية

 يقصد بالمبادئ القانونية العامة هي القواعد القانونية غير المكتوبة التي يستخلصها القضاء ويكشف عنها بالرجوع إلى روح التشريع وظروف المجتمع السياسية والإجتماعية ومبادئ العدالة والإنصاف, ويعلنها في أحكامه فتكتسب قوة إلزامية وتصبح بذلك مصدرًا من مصادر المشروعية. ويعود الفضل في ابراز هذه المبادئ إلى قضاء مجلس الدولة الفرنسي الذي عمل على إستنباطها والكشف عنها وإعلان إلزاميتها من خلال أحكامه الكثيرة لاسيما في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى أصبحت هذه المبادئ نظرية متكاملة حلت محل ما انهار من المبادئ القانونية الدستورية بسبب الاحتلال, حيث شهدت تلك الفترة عودة الحياة الدستورية أثر صدور دستور الجمهورية الرابعة سنة 1946, وتطبيق مبادئ الديمقراطية وإحترام حقوق الأفراد وكفالة تمتعهم بحرياتهم. والقضاء الإداري حين يقوم بالكشف عن هذه المبادئ والإعلان عن وجودها فإنه لا يقوم بخلقها أو إنشائها وإنما الكشف عنها بإعتبارها مبادئ موجودة وكائنة في الضمير العام للجماعة وضمير المشرع الذي لم يفصح عنها في نصوص صريحة.

ومن أمثلة المبادئ القانونية العامة التي أقرها مجلس الدولة الفرنسي وأقر بعضها من بعده القضاء الإداري المصري, مبدأ المساواة أمام القانون, والمساواة أمام الضرائب, والمساواة في إستعمال الأموال العامة, والمساواة أمام الوظائف العامة, والمساواة في الإنتفاع بخدمات المرافق العامة, والمساواة أمام الأعباء أو التكاليف العامة, ومبدأ إستمرار سير المرافق العامة, ومبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية, ومبدأ تخصيص المؤسسات العامة. وقد فرض مجلس الدولة الفرنسي على السلطة الإدارية إحترام المبادئ القانونية في لوائحها بما فيها تلك التي لا تستمد من الدستور أو مقدمته صراحة إستنادًا إلى ما يرتبه مبدأ المشروعية من وجوب خضوع الدولة بكل سلطاتها لكل قاعدة قانونية ملزمة أيًا كان مصدرها.

وقد أثار هذا التوجه لمجلس الدولة نقاشًا محتدمًا حول القوة الإلزامية لهذه المبادئ, فقبل دستور الجمهورية الخامسة لسنة 1958 كان الفقه والقضاء مستقرين على أن للمبادئ القانونية نفس قوة التشريع ومرتبته, فهذه المبادئ بمثابة قانون غير مكتوب وعليه يستطيع المشرع أن يستبعد هذه المبادئ طالما يستطيع أن يعدل في التشريع القائم أو يلغيه, ومن ثم لا يجوز الإعتداد بالمبادئ القانونية المخالفة للتشريع, ويطبق التشريع حتى وأن خالف بعضًا من المبادئ القانونية العامة, ولا يصح الإحتجاج عليه بأنه خالف مبدأ قانونيًا عامًا, في حين يتوجب على الإدارة وهي بصدد ممارستها لاختصاصها اللائحي المستقل إحترام تلك المبادئ نظرًا لقوتها المساوية لقوة التشريع العادي.

والعلة في هذا التوجه لمجلس الدولة الفرنسي أنه لم يعطي لنفسه حتى الآن حق مراقبة دستورية القوانين, فإذا كان من رأي المجلس أن النصوص الدستورية المكتوبة لا تستطيع أن تعيق تطبيق التشريعات العادية المخالفة لها فمن باب أولى أن لا تعيق المبادئ القانونية العامة تطبيق التشريعات العادية المخالفة لها. ولذلك رفض المجلس أن للمبادئ القانونية العامة قوة تعلو القوانين العادية, بل أنه غلب القوانين العادية عند التعارض.

وبعد صدور دستور سنة 1958, ظهر رأي في الفقه الفرنسي يمثله الفقيه (فيدل) يدعو إلى أن تكون للمبادئ العامة مرتبة أسمى من مرتبة التشريع العادي, مؤسسًا دعوته على أن القضاء الإداري إنما يستنبط هذه المبادئ من مقدمات الدساتير أو من العرف الدستوري, ومن ثم يجب أن تسمو على القوانين العادية, وقد عارض جانب كبير من الفقه هذا الرأي على أساس أن اللوائح التي تصدرها الإدارة بما فيها اللوائح المستقلة هي مجرد قرارات إدارية عامة ومن ثم فهي مرتبة أدنى من القانون من حيث قوتها القانونية, ومن ثم فلا حاجة إلى إعطاء المبادئ القانونية العامة التي تخضع لها هذه اللوائح قوة قانونية تعلو منزلة القانون وترفعها إلى منزلة القوانين الدستورية, ومن أبرز انصار هذا الرأي الفقيه (لوبادير), فضلاً عن أن إعطائها مثل هذه القوة يؤدي إلى خلق تفرقة مستساغة أو مقبولة إذا تتمتع المبادئ المستوحاة من الأصول الدستورية بقوة الدستور, بينما تتمتع المبادئ المستوحاة من روح التشريع العادي بقوة القانون, ومن أبرز انصار هذا الرأي الفقيه (ريفيرو).

وبذلك ينتهي الرأي السائد في الفقه الفرنسي إلى أن المبادئ القانونية العامة تعادل القوانين العادية في المنزلة والقوة القانونية, ومهما يكن الأمر بشأن القيمة القانونية أو القوة القانونية لتلك المبادئ, فإن مجلس الدولة الفرنسي قد فرض على السلطة الائحية إحترامها بإعتبارها أعلى مرتبة من اللوائح, من دون أن ينص صراحة على أن القيمة القانونية لتلك المبادئ تعلو على قيمة اللوائح التي تصدرها الإدارة, مكتفيًا بتقرير وجود مبادئ قانونية مفروضة على السلطة اللائحية حتى مع غياب النص.

وفي مصر, فالملاحظ أن القضاء المصري لم يخرج عن المسلك السابق للقضاء الفرنسي, فقد أستقر قضاء مجلس الدولة المصري على إعطاء المبادئ القانونية العامة مرتبة معادلة لنصوص القوانين العادية, وبذلك فإن هذه المبادئ تلزم الإدارة ولا تقيد المشرع.

أما في العراق فإن المشرع الدستوري عبر الدساتير العراقية عمومًا لم يعالج موضوع إصدار الأنظمة في الظروف العادية إستقلالاً عن القانون سواء أكانت لأغراض تنظيم المرافق العامة أم لأغراض الضبط الإداري, ولذلك فقد ذهب الرأي الراجح في الفقه العراقي إلى عدم جواز إصدار هذه الأنظمة إستقلالاً عن القانون, فالنصوص الدستورية لم تمنح الحكومة سوى سلطة إصدار الأنظمة التنفيذية, حيث تنص المادة (80/ثالثًا) من الدستور العراقي لسنة 2005 على أن يمارس مجلس الوزراء صلاحية ((إصدار الأنظمة والتعليمات والقرارات بهدف تنفيذ القوانين)).

كما أن من هذه الأنظمة ما ينطوي على مساس بالحقوق والحريات التي كفلها الدستور للأفراد كما هو الحال بالنسبة للوائح الضبط, الأمر الذي لا يجوز إلا بقانون أو بناءً على قانون, ومع ذلك وبإفتراض أن السلطة التنفيذية تمتلك أن تصدر أنظمة مستقلة في الظروف العادية, فإننا نرى أن مقيدة بهذا الصدد بإحترام المبادئ القانونية العامة, في حين هذه المبادئ لا تقيد المشرع العادي طبقًا للنهج الدستوري الذي يقوم عليه النظام القانوني في العراق.


- الكتاب : القضاء الإداري.
- المؤلف : د. وسام صبار العاني.
- الصفحة : 24 - 28.
اهلاً بكم في مدونة المرشد القانوني

نلفت أنظاركم إلى مستودع في غاية الأهمية على منصة التيليجرام علمًا هو متخصص بإرفاق المصادر القانونية من حيث المعاجم والكتب والمجلات والاطاريح والرسائل.

حسناً