نص المشرع العراقي صراحة على أعمال السيادة لأول مرة في قانون السلطة القضائية رقم (26) لسنة 1963 الذي نص على أن ((ليس للمحاكم أن تنظر في كل ما يعتبر من أعمال السيادة)), ثم تلاه قانون التنظيم القضائي رقم (160) لسنة 1979 الذي نصت المادة (10) منه على أن ((لا ينظر القضاء في كل ما يعتبر من أعمال السيادة)), وأخيرًا ورغم الإنتقادات الشديدة التي واجهتها نظرية أعمال السيادة, فإن المشرع العراقي قد تمسك بالنص عليها في قانون التعديل الثاني رقم (106) لسنة 1989 لقانون مجلس شورى الدولة رقم (65) لسنة 1979, وذلك في المادة (7/خامسًا) والتي تقضي بعد اختصاص محكمة القضاء الإداري بالنظر في الطعون المقدمة بما يلي:
أ. أعمال السيادة, وتعد من أعمال السيادة المراسيم والقرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية.
ب. القرارات الإدارية التي تتخذ تنفيذًا لتوجيهات رئيس الجمهورية وفقًا لصلاحياته الدستورية.
ج. القرارات التي رسم القانون طريقًا للتظلم منها أو الاعتراض عليها أو الطعن فيها.
ويلاحظ على المشرع العراقي في النص المتقدم, أنه خرج عن خطته في الاكتفاء بتقرير الحصانة لأعمال السيادة وترك تحديد تطبيقها للقضاء وهو ما فعله في نصوص سابقة إذ ضمن المادة (7) من قانون التعديل الثاني لقانون مجلس شورى الدولة آنف الذكر, أمثلة وتطبيقات لما يعد من أعمال السيادة كالمراسيم والقرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية, وهو مسلك منتقد, وبسبب شدة الإنتقادات الموجه إليه فقد تخلى عنه المشرع المصري في قانون تنظيم مجلس الدولة الأول لسنة 1946 والثاني لسنة 1949, بسبب ما يؤدي إليه من توسيع لدائرة أعمال السيادة في الوقت الذي يبذل فيه الفقه في معظم الدول جهودًا حثيثة للقضاء على هذه النظرية أو على الأقل التضييق من نطاقها والحد من آثارها الخطيرة.
كما إن إضفاء صفة السيادة على جميع المراسيم والقرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية, إتجاه محل نظر, فليس جميع تلك المراسيم والقرارات هي في الحقيقة كذلك, وإتجاه المشرع هذا من شأنه إخراج طائفة كبيرة من الأعمال الإدارية ذات المساس الخطير بحقوق الأفراد وحرياتهم لمجرد أنها صادرة من رئيس الجمهورية حتى وإن كانت في طبيعتها لا تتصل بالسيادة.
ومما زاد الأمر سوءً ما قضى به التعديل الدستوري الأخير لدستور 1970, والذي صدر قانون التعديل الثاني لقانون مجلس شورى الدولة في ظله, بإضافة الفقرة (ج) إلى المادة (57) من الدستور والتي تنص على أن لرئيس الجمهورية عند الاقتضاء إصدار قرارات لها قوة القانون)), إذ بإضافة هذا النص تكون جميع أعمال رئيس الجمهورية محصنة ضد الرقابة القضائية, بالرغم من كونه رئيسًا للسلطة التنفيذية.
ويلاحظ كذلك أن هذا النص لا يقتصر على حالة الضرورة كما هو الحال بالنسبة إلى المادة (16) من الدستور الفرنسي لسنة 1958, أو المادة (74) من الدستور المصري لسنة 1970, ذلك أن مفهوم (الاقتضاء) أوسع نطاقًا من حالة الضرورة أو الخطر. وقد مارس رئيس الجمهورية فعلاً هذه الصلاحية في غير حالات الضرورة أو الخطر, فمثلاً القرار الذي اصدره رئيس الجمهورية في 1993/3/13, والذي يقضي بعدم جواز ممارسة أي مهنة في سوق الصفارين في بغداد غير مهنة الصفارة, وذلك بهدف الحفاظ على هذه المهنة والإبقاء على الطابع التراثي لهذا السوق وحمايته من غزو المهن والأنشطة الأخرى.
ونحن نرى عدم شرعية الحصانة التي تسبغها هذه النصوص على الأنظمة والقرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية أو التي تتخذ بناءً على توجيهاته, أو أي نص آخر من شأنه أن يغلق باب الطعن القضائي نهائيًا بوجه الافراد, فمثل هذه الحصانة تتعارض مع ما استقرت عليه الجماعة الإنسانية المتمدنة بخصوص الاعتراف لكل فرد بحقه في أن يجد لكل خصومة قاضيًا وهو حق كفلته جميع الدساتير العراقية بما فيها دستور سنة 1970 التي صدرت تلك النصوص في ظله. ويرى (هوريو) إن خضوع الدولة بكل سلطاتها للقضاء صورة من صور الدولة القانونية.
ولا يملك المشرع العادي منع ممارسة هذا الحق أو تقييده إذ لم يجز الدستور مثل هذا المنع أو التقييد, فلم يتضمن أي نص يقيد ولاية القضاء أو حق الأفراد في التاقضي, ولو أراد المشرع الدستوري ذلك لنص عليه صراحة ولا إعتراض على مشيئته حينئذٍ فهو وحده الذي يملك الحرية في توزيع الإختصاصات بين السلطات العامة وتنظيم العلاقات فيما بينها, حيث تنص المادة (36/ب) من الدستور العراقي لسنة 1970 على أن ((حق التقاضي مكفول لجميع المواطنين)). في حين تنص المادة (37) من مشروع الدستور لسنة 1990 على أن ((تسري ولاية القضاء على جميع الأشخاص الطبيعية والمعنوية العامة والخاصة ألا ما استثني بنص في القانون). وقد حسم الدستور العراقي لسنة 2005 هذا الأمر حين نص صراحة على حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء, حيث تنص المادة (100) من الدستور العراقي لسنة 2005 على أنه ((يحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من الطعن أمام القضاء)), وهو مسلك صحيح يستحق التقدير.
أما على صعيد القضاء العراقي, فقد ظهرت تطلبيقات عدة لنظرية أعمال السيادة في احكامه, ومن هذه التطبيقات يتضح أن القضاء العراقي لا يسير في تحديد أعمال السيادة على وتيرة واحدة أو وفق معيار واحد فقد تأرجحت أحكامه بين معياري طبيعة العمل والقائمة القضائية أو الجمع بينهما في آن واحد.