إذا كانت السلطة التقديرية تمثل قيدًا على ولاية القضاء العامة مما يستلزم تمتع الإدارة بقسط من حرية التصرف, فإن هذه الحرية لا تنجو من رقابة القضاء, لأن المشرع تركها لها بإرادته كيما تستطيع القيام بواجباتها والاضطلاع بمهامها على أحسن وجه, لكن رقابة القضاء على السلطة التقديرية للإدارة محدودة بحدود مشروعية أعمال الإدارة فمهمته في هذه الحالة لا تتعدى فحص مشروعية التصرف أي مدى مطابقته للقانون, فالأصل أو المبدأ العام أن القاضي الإداري هو قاضي مشروعية فلا يجب أن تمتد رقابته إلى ملاءمة تصرف الإدارة.
ويبرر هذا المبدأ من الناحية العملية, استحالة ممارسة الرقابة على الملاءمة نظرًا لبعد القاضي من حيث الزمان والمكان عن الظروف والملابسات التي أحاطت بإلادارة في ممارستها لسلطتها التقديرية, كما أن إخضاع تصرفات الإدارة لرقابة الملاءمة يصطدم بمبدأ الفصل بين السلطات, ذلك أن القاضي إذا تصدى لفحص ملاءمة العمل الإداري يبدو وكأنه نصب من نفسه سلطة رئاسية لجهة الإدارة, أو حل محلها في ممارسة الوظيفة الإدارية. إلا أن اقتصار ولاية القضاء على فحص مشروعية أعمال الإدارة وتصرفاتها لا تلغي القيد العام الذي يرد على سلطة الإدارة بأن يكون الغرض من عملها هو الصالح العام, سواء أكان عملها في مجال السلطة المقيدة أم في مجال السلطة التقديرية, فإذا انحرفت الإدارة عن هذا الغرض كان قرارها معيبًا بعيب إساءة استعمال السلطة, ومن ثم محلاً للإلغاء.
وفي الحقيقة فإن تحديد سلطة قاضي الإلغاء برقابة المشروعية دون الملاءمة في جميع الأحوال أمر محل نظر, فقد تخرج مسالة تقدير ملاءمة التصرف من سلطة الإدارة التقديرية, وتصبح عنصرًا من عناصر المشروعية الأمر الذي يوسع سلطة القاضي الإداري فيصبح قاضيًا للملاءمة دون أن يخرج من كونه قاضيًا للمشروعية, بإعتبار أن الملاءمة قد تشكل عنصرًا من عناصر المشروعية كما في حالة تدخل سلطات الضبط الإداري عندما يرافق التدخل تقييد للحريات العامة, وليس في هذا تعارضًا مع مبدأ الفصل بين السلطات, بل تأكيدًا له وتفعيلاً لدوره وآثاره, فإعطاء الإدارة قدرًا من الحرية والاختيار في تقدير الوقائع والأسباب التي تؤسس عليها قراراتها في مجال سلطتها التقديرية أمر تقتضية طبيعة وظيفتها الإدارية والاعتبارات العملية التي تستدعيها ضرورات سير المرافق العامة بانتظام واطراد, ولكن تقدير تلك الوقائع والاسباب وأهميتها ينبغي أن يخضع لرقابة القضاء, إذ أن من شأن ذلك أن يحمل الإدارة على توخي الدقة في تسبيب قراراتها وملائمة تصرفها للمصلحة العامة من جانب, ويمنع تعسفها وإنحرافها في استعمالها سلطتها التقديرية بما يضمن حقوق الافراد وحرياتهم وعدم الافتئات عليها من جانب آخر, فالسلطة التقديرية ليست سلطة تحكمية مطلقة بل ينبغي أن يتثبت القضاء من أن الإدارة في استعمالها لسلطتها التقديرية لم تنحرف بالسلطة.
وعلى هذا الأساس فقد سمح القضاء الإداري الفرنسي لنفسه استثناءً أن يقدر الوقائع وينظر مدى ملاءمتها مع القرار الذي صدر على اساسها, وذلك عندما تكون الملاءمة شرطًا من شروط المشروعية يتعين بحثه للتثبت من وجودها, ويتحقق ذلك خاصة عندما لا يكون القرار مشروعًا إلا إذا كان ضروريًا أو لازمًا للحالة التي يواجهها.
وتقدير الوقائع يمكن أن يرد من ناحيتين, تقدير الوقائع في ذاتها وتقدير أهميتها, وقد اتجهت قرارات مجلس الدولة الفرنسي أول الأمر إلى تقرير سلطته في الرقابة على تقدير الوقائع في ذاتها, فقضى بإلغاء القرار الإداري رغم أنه يستند إلى واقعة صحيحة ما دامت هذه الواقعة لا تبرره. أما بالنسبة لتقدير الواقعة فإن المجلس قد أمتنع عن تقدير هذه الأهمية في حالات كثيرة, بحجة أن الإدارة هي قاضي أهمية الوقائع وخطورتها, ولأن القانون في نطاق السلطة التقديرية لا يحدد وقائع معينة, ومن ثم فهو لا ينص على درجة معينة لأهميتها, وعليه فليس للقضاء أن يمارس أية رقابة على أهمية الوقائع وإلا فإنه يخرج عن سلطاته بوصفه قاضٍ ليصبح رئيسًا أعلى للإدارة.
إلا أن قضاء مجلس الدولة الفرنسي قد تطور في مراحل لاحقة باتجاه توسيه نطاق رقابته على قرارات الإدارة في مجال سلطتها التقديرية بما في ذلك وجود الوقائع ومطابقتها وتبريرها للقرار وعدم وجود غلط بين جانب الإدارة في تقييم الوقائع وتقدير القرار المناسب, بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك فانتهى إلى الموازنة بين المنافع العامة المرجوة من القرار والأضرار التي يحتمل أن تترتب عليه بحيث لا يعد القرار مشروعًا إلا إذا زادت منافعه عن الأضرار المحتملة. وفي هذا الصدد فقد ابتدع مجلس الدولة الفرنسي في مرحلة أخيرة (نظرية الموازنة) كإحدى الحلول التي تمكنه من توسيع رقابته على تقدير الوقائع وأهميتها بالنسبة لأعمال الإدارة في مجال سلطتها التقديرية.
وعلى الرغم من أن عنصر الزمن هو من أبرز عناصر السلطة التقديرية, ومن ثم فإنه يفترض أن لا تخضع بشأنه الإدارة إلا لقيد التعسف أو الانحراف, فإن القضاء الإداري في فرنسا حاول الحكم على اختيار الوقت ذاته, فذهب مجلس الدولة الفرنسي مثلاً إلى أن عدم تحديد المشرع لوقت زمني لاتخاذ قرار معين لا يعني حرية الإدارة المطلقة في هذا المجال, بل يتعين عليها أن تحسن اختيار وقت تصرفها. على أن ما ينبغي ملاحظته, أن مذهب القضاء الإداري الفرنسي في مجال إخضاع فحص الملاءمة لرقابته ظل على سبيل الاستثناء مقصورًا على ميدان الضبط الإداري باعتباره ميدان القرارات المقيدة للحريات وكذلك ميدان العقوبات التأديبية للموظفين.
وفي مصر يراقب القضاء الإداري ملاءمة القرار للوقائع التي دفعت إلى إصداره ولاسيما في مجال الحريات ومسائل الضبط الإداري لما لها من مساس بتلك الحريات, بل إن القضاء الإداري المصري باشر تلك الرقابة حتى في ظل إعلان الأحكام العرفية, فقد قضت محكمة القضاء الإداري بأن قرار الحاكم العسكري العام في ظل الأحكام العرفية كأي قرار إداري آخر ينبغي أن يكون له سبب بأن تقوم حالة واقعية أو قانونية تدعو الإدارة إلى التدخل, وأن هذا السبب يخضع لرقابة المحكمة, وبعد أن اشارت المحكمة إلى خضوع ملاءمة قرارات الحاكم العسكري لرقابتها والأساس القانوني لهذه الرقابة انتهت إلى أنه "وإن كانت الإدارة في الأصل تملك حرية وزن مناسبات العمل وتقدير أهمية النتائج التي تترتب على الوقائع الثابت قيامها والتي من أجلها تتدخل لإصدار قرارها, إلا أنه حينما تختلط مناسبة العمل الإداري بشرعيته, ومتى كانت هذه الشرعية تتوقف على حسن تقدير الأمور لاسيما فيما يتصل بالحريات العامة وجب أن يكون تدخل الإدارة لاسباب جدية تسوغه فلا يكون العمل الإداري عندئذ مشروعًا إلا إذا كان لازمًا, وهو في ذلك يخضع لرقابة المحكمة, فإذا ثبتت جدية الأسباب التي سوغت هذا التدخل كان القرار بمنجاة من اي طعن, أما إذا أتضح أن هذه الأسباب لم تكن جدية ولم تكن لها من الأهمية الحقيقية ما يسوغ التدخل لتقييد الحريات العامة كان القرار باطلاً.
كما أخضع القضاء الإداري المصري ملاءمة قرارات الإدارة في مجالس التأديب لرقابته أيضًا. وترسخ هذا القضاء بعد حكم المحكمة الإدارية العليا في أكتوبر (تشرين الأول) لسنة 1961 الذي يعد نقطة تحول في قضاء هذه المحكمة بالذات إذ كانت مترددة في بسط رقابتها على ملاءمة تقدير الوقائع وأهميتها, وفي هذا الحكم ابتدعت المحكمة الإدارية العليا فكرة (الغلو) الذي يشوب سلطة تقدير العقوبة الانضباطية أو يستدعي بالتالي إلغائها أو تعديلها. كما أن المحكمة في أحكام حديثة لها أخذت بفكرة الموازنة بين المصالح المتعراضة التي أبتدعها مجلس الدولة الفرنسي.
أما في العراق فإننا يمكن أن نتلمس تردد القضاء العراقي في فرض رقابته على أعمال الإدارة عمومًا، لاسيما في المرحلة التي سبقت نشأة القضاء الإداري قبل صدور التعديل الثاني لقانون مجلس شورى الدولة الذي تم بموجبه استحداث محكمة للقضاء الإداري، تختص بالنظر في صحة الأوامر والقرارات الإدارية التي تصدر من الموظفين والهيئات الإدارية.
فقد ذهبت محكمة التمييز في أكثر من حكم لها إلى أنه ((ليس للمحاكم ولاية القضاء على القرارات الإدارية الصادرة عن السلطات ذات الشأن ما لم يكن هناك ضرر نتج عن قرار صادر خلاف القانون)). وأسست محكمة التمييز قضاؤها في هذه الأحكام على أن ((قاعدة الفصل بين السلطات لا تجيز للسلطة القضائية النظر في أعمال السلطة التنفيذية الممنوحة لها وفق أحكام القانون)).
وظاهر أن المفهوم الذي يستند إليه قضاء محكمة التمييز للفصل بين السلطات يتعارض مع المفهوم الواقعي والعملي لهذا المبدأ، إذ لم يعد مقبولاً المفهوم المطلق للفصل بين السلطات، بل إن الهيئات العامة في الدولة تباشر اختصاصاتها ووظائفها على أساس من التعاون والتوازن بينهما، ورقابة القضاء على أعمال الإدارة لا تعني انتقاصا من تلك المساواة أو إخلالاً بذلك التوازن، بل العكس تمامًا، فهذه الرقابة هي رقابة على الحدود النهائية لكل سلطة من السلطات قبل كل شيء بما يمنع تجاوزها على غيرها دون أن يعني ذلك بحال خضوع السلطة التنفيذية عضويًا لسلطة القضاء. وعلى هذا الأساس أقرت دساتير أغلب الدول المتمدنة وكذلك الفقه؛ للقضاء بحق الرقابة على دستورية القوانين بالرغم من أن هذه القوانين أعمال تشريعية تصدر عن السلطة التشريعية التي تعبر عن الإرادة العامة من دون أن يكون في ذلك انتقاص من سلطة المشرع أو إخلال بمبدأ الفصل بين السلطات، فيكون والحالة هذه من باب أولى أن يفرض القضاء رقابته على أعمال الإدارة بدون أن يكون في هذه الرقابة انتقاص من سلطة الإدارة أو إخلال بمبدأ الفصل بين السلطات أيضًا.
ويلاحظ أن محكمة التمييز نفسها عادت فيما بعد وأقرت ضمننًا أن إنعدام ولايتها على إلغاء القرارات الإدارية إنما يقتصر فقط على القرارات المشروعة التي تصدر من جهة مختصة وفي حدود القانون، مما يعني وبمفهوم المخالفة أنها تملك ولاية الإلغاء على القرارات غير المشروعة وهو المستفاد من حكمها الصادر بتاريخ 1969/10/1، والذي جاء فيه ((... وقد وجد أن المميز عليه وفي فرضه الرسم الجمركي على المميزين لم يتجاوز سلطته القانونية باعتبار أنهما المستوردان للبضاعة وأنهما صاحباها المسؤولان عن الرسم الجمركي عنها بمقتضى قانون الكمارك، وكان من حقهما مراجعة طرق الطعن المنصوص عليها في المادتين 164,163 من القانون المذكور إذا وجد القرار مخالفًا للقانون لا أن يقيما هذه الدعوى في المحاكم العامة لإلغائه إذ لا ولاية للمحاكم للنظر في إلغاء قرار إداري صادر من موظف مختص قانونًا بإصداره ولم يتجاوز فيه حدود سلطته القانونية وقد عين القانون طرق الطعن فيه....)).
ثم انتهت محكمة التمييز بعد ذلك وفي حكم آخر إلى الأعتراف صراحة للمحاكم العراقية بولاية إلغاء القرارات الإدارية غير المشروعة، فقضت بأن ((.... أما القول بأن المحاكم لا تملك إلغاء القرار الفردي فغير وارد أذ أن القضاء له الولاية العامة وهو الحارس على حقوق الناس إلا في المجالات الممنوع فيها قانونًا، فلذلك إذا ثبت للقضاء أن القرار الإداري لا سند له في القانون يدعمه ولا يوجد قانون خاص يمنعه من ممارسة اختصاصه فيه فله أن يصدر من الأحكام ما يعيد الحق لنصابه)).
ومع ذلك فإن المستقرئ لأحكام القضاء العراقي في نطاق الرقابة على أعمال الإدارة عمومًا وحالات السلطة التقديرية خصوصًا يجد بعضًا من هذه الأحكام، على ندرتها، يعترف فيها القضاء لنفسه بفرض رقابته على قرارات الإدارة التي تتمتع فيها بشيء من سلطة التقدير، ومعظم هذه الأحكام في قضايا الوظيفة العامة كاستحقاق الدرجة الوظيفية، ومنح القدم والعلاوات السنوية ونحو ذلك.