قال الأستاذ غالب القرالة إن: (تعيش في ظل الحرية وتنمو في رحاب العدل وتعمل تحت راية سيادة القانون).
هذا القول غير صحيح على الإطلاق فالمحامي الشرعي يعمل في ظل الشرع الحنيف والعدالة أما المحامي غير الشرعي فينمو ويترعرع في رحاب الظلم والفزع وشراء الذمم و التلاعب بالحقوق. لذلك نلاحظ قلة المحامين الشرفاء في سلك المحاماة وكثرة المحامين الذين لا يهمهم إلا الربح المادي من دون أن يشغلوا بالهم في العدل والعدالة.
ويقال أيضًا: (هي رسالة ذات غايات قومية وإنسانية نبيلة تستهدف الدفاع عن الحقوق الطبيعية والموضوعية للأفراد والأمة والوطن والإنسانية).
صاحب التعريف يورد مصطلحات جذلة طنانة بيد أنها فارغة المضمون، لأنها مصطلحات أطلقها اللا دينيون في مجتمعنا المسلم فأصمت الآذان وأماتت كثير من القلوب و الضمائر. كقوله هي (رسالة) فنحن نعلم إن المحامي مرسل من عند أحد بل هو وكيل عمن وكله بأن يدافع عنه بكل ما أوتي من قوة وبلاغة وحجج و براهين.
ويقال أيضًا: (هي رسالة ذات غايات قومية وإنسانية نبيلة تستهدف الدفاع عن الحقوق الطبيعية والموضوعية للأفراد والأمة والوطن والإنسانية).
صاحب التعريف يورد مصطلحات جذلة طنانة بيد أنها فارغة المضمون، لأنها مصطلحات أطلقها اللا دينيون في مجتمعنا المسلم فأصمت الآذان وأماتت كثير من القلوب و الضمائر. كقوله هي (رسالة) فنحن نعلم إن المحامي مرسل من عند أحد بل هو وكيل عمن وكله بأن يدافع عنه بكل ما أوتي من قوة وبلاغة وحجج و براهين.
أما قول: (تستهدف الدفاع عن الحقوق الطبيعية والموضوعية).
هذا التعبير غير موفق على الإطلاق لعدم وجود مثل هذه الحقوق، فما هي الحقوق الطبيعية والموضوعية للإنسان؟ لا جرم أنّ هذه الحقوق غير موجودة، ولكن هناك حقوق وواجبات شرّعها الخالق العظيم يمكن للمحامي أن يدافع عنها ضمن أحكام وأوامر ونواهي الشريعة الإسلامية.
هذا التعبير غير موفق على الإطلاق لعدم وجود مثل هذه الحقوق، فما هي الحقوق الطبيعية والموضوعية للإنسان؟ لا جرم أنّ هذه الحقوق غير موجودة، ولكن هناك حقوق وواجبات شرّعها الخالق العظيم يمكن للمحامي أن يدافع عنها ضمن أحكام وأوامر ونواهي الشريعة الإسلامية.
أما قول : (وهي تسعى في الوطن العربي لتوفير العدل والحرية…).
فيمكن الفهم منه إن المحاماه خارج ما يسمى بالوطن العربي لا تسعى إلى توفير العدل والحرية، لا جرم بأن المحاماة وظيفة سامية في جميع أنحاء العالم وليس في جزء من أجزائه فقط، بل لا نكون قد بالغنا إذا قلنا إنه ليس لهذه المهنة قيمة تذكر داخل الوطن العربي و العالم الثالث أما خارج هذين العالمين فيمكن إثبات عكس ذلك نوعاً ما.
وفي الختام فإن الأستاذ غالب القرالة لم يوفق في هذا التعريف على الإطلاق كونه تعريف عاطفي غير موضوعي. بل وكان من الأجدر على الباحث أن يأتي بتعريف موضعي غير شخصي وجامع ومانع أيضًا.
أما الأستاذ رزق الله أنطاكي فقد عرّف المحامي بقوله : (لا يدخل المحامون في فئة الموظفين فهم مساعدون قضائيون من نوع خاص تنحصر وظائفهم بمساعدة المتقاضين وذلك بإعطائهم الاستشارات القانونية و بالدفاع عنهم أمام المحاكم بطريق الوكالة).
وعرّف الدكتور عبد العزيز عامر المحامي بقوله: (طائفة خاصة يشترط في أفرادها العلم والكفاية و الخبرة وحسن السمعة ووظيفتها الوكالة عن الخصوم أمام المحاكم للدفاع عن موكليهـم وتقديم المشورة لهم وتولـي شـؤونهم القضائية).
يستفاد من التعاريف السابقة إن تعريف المحامي مرتبط بالوظيفة التي يشغلها وإن المحاماة تتضمن أنواعـًا ثلاثـة من الأعمال القانونية هي:
1- تقديم الفتاوى القانونية: يكون المحامي عادة عالمًا بالقانون ونظرياته وتطبيقاته لذلك يمكنه تقديم وصف دقيق لجميع حقوق موكله، وإرشاد موكله إلى الوسائل التي يوفرها القانون للمحافظة على حقوقه، و إلى أوجه الدفاع المتوفرة تجاه دعاوى خصومه. ويوحي إليه بالإجراءات التحفظيه التي تعمل على حماية موقعه كما يمكن أن يرشد موكله إلى الاستخدامات الصحيحة للأدلة التي ترجح دعواه في حال توافر هذه الأدلّة، أو البحث عن تلك الأدلة غير المتوفرة التي تضمن حكمًا لصالح موكله.
2- تمثيل الموكل في الدعاوى: لعل هذا العمل من أهم أعمال المحامي، فهو يسمح له بالحلول محل موكله في تحريك الدعوى القضائية والإشراف على الأعمال، والإجراءات القانونية.
3- الدفاع عن الموكل أمام المحاكم وغير المحاكم: يعتبر الدفاع عن الموكل نشاطًا صرفًا يقوم به المحامي ولا يمكن لغيره القيام به إلا بشروط عديدة ضمن دائرة ضيقة تحددها القوانين.
مشروعية المحاماة:
انقسم العلماء المحدثين إلى فريقين في حكمهم على مزاولة مهنة المحاماة. فريق محلل وآخر محرم. وسعى كل من الفريقين إلى حشد الأدلة والبراهين المؤكدة لإجتهاده. وسبب هذا الاختلاف بين الفقهاء المحدثين على ما أعتقد:
1- سوء سمعة المحامي القانوني وأثره السيء على المتقاضين والمحاكم.
2- عدم وجود تطبيق عملي متطور لهذه المهنة في التاريخ الإسلامي.
3- عدم وجود نص شرعي أكيد يحلل أو يحرم هذه المهنة.
4- فقدان المرجعية الإسلامية ووقوع معظم المسلمين فريسة الجهل والتجهيل الصادر عن الدول الإستعمارية وتلاميذهم الحاكمين لمعظم الديار الإسلامية.
5- محاربة الاجتهاد والمجتهدين بحجة إغلاق باب الاجتهاد وإدعاء عدم وجود مجتهدين في هذا العصر.
لهذه الأسباب مجتمعة لم تتطور الوكالة بالخصومة تطورًا يوافق ويلائم العصر الحديث ومشاكله.
* المحرمون وأدلتهم
حلل معظم الفقهاء والكتاب المحدثين هذه المهنة. بيد إنه قلّة قليلة منهم هاجم هذه المهنة وأصحابها حرم امتهانها والإلتجاء إليها. ولعل أشهر هؤلاء العلّامة أبو الأعلى المودودي عليه رحمة الله، وهو أمير الجماعة الإسلامية في الباكستان. والشهيد الدكتور عبد لله عزّام، والدكتور خادم حسين. وسوف نورد آرائهم وأدلتهم التي إستندوا إليها مع مناقشة لهذه الأدلة والبراهين:
أولاً- العلامة المودوي:
قال الإمام المودودي يرحمه الله : هذه المهنة من أكبر معايب النظام الحاضر للمحكمة، بل لعلها أكبرها وأشنعها ولا يمكن أن تقال أي كلمة في تبرير بقائها من الوجهة الخلقية. أما من الوجهة العملية، فليس هناك حاجة حقيقية لأعمال المحكمة لا يمكن سدّها بطريق غير طريق المحاماه. إن حرفة المحاماه مما يأبى مزاج الإسلام وجوده إباًء شديدًا. فالإمام المودودي يقرر إن المحاماه محرمة في الشريعة الإسلامية لعدة أسباب لعل أهمهـا:
1- هذه الحرفة من أكبر معايب النظام الحاضر للمحاكم الوضعية.
2- عدم وجود أي مبرر خلقي ، أو عملي لبقاء هذه المهنة في المحاكم.
3- إن وجودها يؤدي إلى تلاعب المحامين بالقانون الإلهي ، كما يتلاعبون الآن بالقوانين الوضعية.
4- إن المحامي يأخذ محلّه في السوق ببضاعة مهارته، فهو يخرج الحجج القانونية لمن يوكله، ولا يهمه إن كان موكله على حق أم على باطل.
5- إن هذه الحرفة ما ضرت نظام العدالة فحسب بل تسربت مضرتها إلى كل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية .
6- إن الحكم الإسلامي عمر أكثر من نصف الدنيا، دون أن ترى لهذه الحرفة أثرًا.
ثم يورد الشيخ حرفة أخرى لتحل محل المحاماة مكونة من منصب الإفتاء و الوكالة بالخصومة:
1- منصب الإفتاء: طالب الشيخ بتجديد منصب الإفتاء عن طريق تعيين من لهم خبرة في القانون على أن تقتطع لهم الرواتب المعقولة من الخزانة العامة حسب حاجة كل بلدة ومقاطعة. ويكون تزويد أي من الخصمين لهذا الموظف بأي مبلغ من المال غير مشروع بحكم القانون. ولا يكون للحكومة أي حق في الضغط عليهم أو التأثير على آرائهم عندما يحضرون المحكمة ويدلون بدلائلهم.
2- الوكالة: كما طالب الشيخ -رحمه الله- بإحياء وتطوير الوكالة التي كانت رائجة في محاكمنا أيام الحكم الإسلامي، عن طريق إنشاء صفوف ثانوية يعلُم فيها ذوي الثقافة المتوسطة قانون سير القضايا نظريًا وعمليًا.
والمتخرجون من هذه الصفوف لا ينبغي أن يكون من واجبهم إلا إعداد القضايا وتهذيبها للضابطة حتى تصير قابلة للمرافعة في المحاكم ولا بأس بالإذن لهم بتقاضي أجرة مناسبة من المراجعين على مثل هذه الأعمال. رحم الله شيخنا المودودي فقد فسر الماء بعد الجهد بالماء وعوضًا عن تسهيل وتبسيط الإجراءات القضائية قام بتعقيدها بفصل مهنة المحاماة إلى مهنتين : الإفتاء والوكالة. وعوضًا عن هذه الحلول المعقدة و التي تزيد الطين بلة. لماذا لا نهذب مهنة المحاماة وفق شرعنا الحنيف وأخلاقنا السامية ومتطلبات العصر الحديث؟ سيرى حينها القارئ العزيز سمات المحامي الشرعي الذي ينبغي أن يكون في شرعنا الحنيف منثورًا في قرآننا الكريم و سنة نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانيًا- الدكتور عبد الله عزام:
الشهيد عبد الله عزام قال: (قال بعضهم إن عمل المحامي حرام، لأنه يترافع أمام الطاغوت ويوقر الحكم بأحكام الكفر، ويبجل القضاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، وقـد تدخل المبالغات والزيــادات والتهويلات في مرافعاتـه…).
يتبين مما تقدم إن الشهيد عبد الله عزام يحرم المحاماه لعدة أسباب ومفهوم المخالفة يقضي عند إنتفاء هذه الأسباب أن يتغير الحكم ويكون ما هو حرام وفق ظروف معينة حلالًا وفق ظروف عكسية. والأسباب التي دعت الشهيد إلى هذا الحكم هي:
1- ترافع المحامي أمام الطاغوت الذي يحكم بغير ما أنزل الله. وعليه فإن المحاماه تصبح شرعية إذا لم يترافع المحامي أمام طاغوت، بل أمام قاضي شرعي يحكم بما أنزل الله.
2- إن المحامي يدخل المبالغات والتهويلات في مرافعاته وعليه فإذا تأدب المحامي بآداب الإسلام وحدوده، فإن هذه المهنة تصبح شرعية ولا شك في ذلك. أي إن المحاماة تصبح شرعية إذا وضعت في بيئة إسلامية وصيغت صياغة وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء.
ثالثاًً- الدكتور خادم حسين:
كان السيد خادم حسين من أشد مهاجمي المحاماة والمحامين وأستدل على حرمة المحاماه بما يلي:
1- عدم معرفة هذه المهنة قبل القرن الثاني عشر من الهجرة إذ دخلت إلينا عبر أوربا التي استعمرت بلادنا.
2- إن الإسلام لا يبيح التوكيل بالخصومة أمام القضاء إلا في حالات اضطرارية.
3- الأجر الذي يستحقه المحامي مجهول يحيط به الغرر من كل جهة و أصول الشريعة لا تبيح صفقات الغرر.
4- التوكل بدفع الحد عن المتهم لا يصح في الإسلام .
5- المحاماه عبارة عن شفاعة والوكيل هو الشفيع، والموكل هو المشفوع له، والمعلوم إن الشفاعة لا تصح. وعليه فإن المحاماه محرمة.
6- المحاماه قرينة بمهنة صناعة الخمر وبيع لحم الخنزير وهي من الحرف التي لا تجيزها أصول الشريعة. وقد أحدثت مقالة للدكتور خادم حسين في تحريم الشريعة الإسلامية للمحاماة ضجةً عنيفة جدًا وأثارت حفيظة كثير من العاملين في سلك القضاء والمحامين. ومـن الذيـن ردوا على مقالة خـادم حسين القاضي الشـرعي فـي دولـة قطر -عبد القادر العماري-. والدكتور عبد لله رشوان إضافة إلى مقالات لم تنشر في الصحف لكثرتها.
الرد على شبهات الدكتور خادم حسين:
- الشبهة الأولى: عدم معرفة هذه المهنة قبل القرن الثاني عشر من الهجرة ودخولها إلى بلادنا عبر أوربا مع الاستعمار الأوربي.
الرد على الشبهة الأولى: إن المحاماة أو ما يطلق عليها الفقهاء بـ"الوكالة بالخصومة" قديمة في بلادنا قدم المحاكم الشرعية، بيد أن هذه المهنة لم تتطور إلا عند دخول الاستعمار الغربي إلى بلادنا ونحن سنستطيع -بعون الله سبحانه وتعالى- بعد أن تخلصنا من الاستعمار المباشر أن نتخلص من تلاميذه المسيطرين على معظم البلاد الإسلامية وأن نصبغ هذه المهنة الهامة بصبغة شرعية توافق بيئتنا الإسلامية و شرعنا الحنيف. وليعلم الكاتب بأننا قد سبقنا أوربا منذ قرون في معرفة جذور هذه المهنة في الوقت الذي كانت لدينا الوكالة بالخصومة كان لدى أوربا ما يعرف بالنزال وصديق المتهم وهما أسلوبان همجيان للدفاع عن الموكل.
- الشبهة الثانية: إن الإسلام لا يبيح التوكيل بالخصومة أمام القضاء إلا في حالات اضطرارية.
الرد على هذه الشبهة: الحقيقة هي أن الوكالة بالخصومة جائزة في كل القضايا كقاعدة عامة إذا كانت ضمن دائرة المساعدة على إظهار الحقيقة وتطبيق الشريعة. فالسلف الصالح -رضوان الله عليهم- كانوا يستخدمون الوكالة على نطاق واسع.
- الشبهة الثالثة: إن الأجر الذي يستحقه المحامي مجهول يحيط بـه الغرر من كل جهة.
الرد على هذه الشبهة: يقول الدكتور عبد الله رشوان ردًا على هذه الشبهة : هذا الأجر أو الأتعاب نظير عمل، وهو الجهد الذي يبذله المحامي في القضية لإظهار حقائقها بناء على اتفاقه مع موكله وبصرف النظر عن أي نتيجة. وهذه هي الحقيقة التي غابت عن الكاتب بحيث ظنّ إن الأتعاب مرهونة بنتيجة الخصومة. وبالتالي راح يربطها بعقود الغرر حتى يصل إلى حجة تؤيده فيما ذهب إليه من تحريم مهنة المحاماة في الكلية في الشريعة الإسلامية، وهذا خطأ وقد يكون سبب هذا الفهم ما جرى عليه عرف بعض المحامين من تأجيل سداد بعض الأتعاب حتى تنتهي القضية وهو ما يسمى بمؤخر الأتعاب. وللمحامي الحق في تأجيل أتعابه كلها أو بعضها دون أن يمس ذلك أصل إستحقاقه لها وكثير من المحامين الإسلاميين لا يعملون بهذا العرف ويتقاضون أتعابهم مقابل نظير عملهم فقط دون النظر إلى نتيجة الحكم في الدعوى وكـان مـن هـؤلاء، المحــامي عبد القـادر عودة رحمه الله.
- الشبهة الرابعة: إن التوكل بدفع الحد عن المتهم لا يصح في الإسلام في القضايا الجنائية (أي في الحدود).
الرد على هذه الشبهة: خلط الكاتب هنا بين التوكل بالخصومة، والتوكيل فيما لا يقبل النيابة، والفقهاء قد صرحوا بقبول توكيل المدعى عليه بالحد والقصاص بيد أنهم اختلفوا بحق الوكيل بالاعتراف عن موكله.
- الشبهة الخامسة: المحاماة عبارة عن شفاعة في حدود الله.
الرد على هذه الشبهة: إن الشفاعة التي لا تجوز هي طلب الرحمة لمقترفي الحد بعد ثبوت الحد وصدور حكم قضائي عليهم بذلك. أبين مثال على ذلك هو محاولة أسامة بن زيد رضي الله عنه الشفاعة للمرأة المخزومية بعد ثبوت الحد عليها : (عن عائشة بنت مسعود بن الأسود، عن أبيها : قال لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أعظمنا ذلك وكانت امرأة من قريش. فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نكلمه، فقلنا : نحن نفديها بأربعين أوقية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (تطهر خير لها) فلما سمعنا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أتينا أسامة فقلنا : كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قام خطيبًا فقال : (ما إكثاركم علي في حد من حدود الله عز وجل وقع على أمة من إماء الله؟ والذي نفسي بيده! لو كانت فاطمة ابنة رسول الله نزلت بالذي نزلت به، لقطع محمد يدها). وعلى هذا فإن المرأة المخزومية قد سرقت وثبت جرمها بحكم بات أصدره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جاء أسامة بن زيد فكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليشفع لها بحد ثبت بشكل قاطع . أما لو كان أسامة بن زيد جاء ليظهر حقيقة قد خفيت لكان فعل أسامة صحيحاً وشرعياً. والمحاماة تقع ضمن هذه الدائرة. وعن صفوان بن عبد الله بن صفوان : (إن صفوان بن أمية قيل له : إنه إن لم يهاجر فقد هلك، فقدم صفوان بن أمية المدينة، فنـام في المسجد وتوسد رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن تقطع يده فقال له صفوان : إني لم أرد هذا يا رسول، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فهلا قبل أن تأتيني به). هذا الحديث فيه دلالة واضحة على إن الشفاعة تصح في غير مجالس القضاء، والمحامي قد يستطيع إقناع المتضرر (المسروق) بعدم رفع الأمر إلى القضاء ليحل الأمر بشكل ودي، أما إذا رفع الأمر إلى القضاء، وكان هناك شبهة تدرأ الحد عندها يستطيع المحامي بيان هذه الشبهة والبرهان على أنها تدرأ الحد عن موكله. ولقد أجمع فقهاء الأمصار على أن الحدود تدرأ بالشبهات والحديث المروي في ذلك متفق عليه ، تلقته الأئمة بالقبول. وهناك أمرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد زنت فسألها عن ذلك فقالت : نعم يا أمير المؤمنين وأعادت ذلك وأيدته، فقال : أنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام ، فدرأ عنها الحد. وقد قسم فقهاء الحنفية الشبهة إلى شبهة في الفعل تسمى شبهة الاشتباه وشبهة في المحل، الأولى تتحقق في حق من أشتبه عليه الحل والحرمة، فظن غير الدليل دليل، فلا بد من الظن وإلا فلا شبهة أصلاً كظنّه حل وطء المطلقة ثلاثًا في العدة ففي هذه الحال لا حد إذا قال ظننت أنها تحل لي والشبهة في المحل مثل المطلقة طلاقاً بائناً بالكنايات ثم جاء الإمام أبو حنيفة بشبهة ثالثة وهي شبهة العقد فلا حد إذا وطئ محرمه بعد العقد عليها وإن كان عالمًا بالحرمة فلا حد على من وطئ، أمرأة تزوجها بلا شهود وبغير إذن مولاها. فالمحامي يستطيع أن يتأكد من حقيقة الشبهة ومدى مسؤولية موكله تجاهها ثم يحاول أن يجد ما يخفف الحكم عن موكله إذا كان مقتنعاً أن هناك ظروفاً توجب ذلك، ولكن ليس من حقّه بل لا يجوز له أن يحاول تبرئة موكله من التهمة الموجهة إليه وهو يعلم إن الحقيقة خلاف ذلك. إن من حق المتهم أن يبعد عن نفسه التهم وإن الغالب في المتهمين إذا دخل دوامة الإتهام يقع تحت ضغط نفسي وعصبي لا يتمكن معه من تجميع أفكاره وإيرادها بالتسلسل وبالوجه الصحيح وهنا يأتي دور المحامي فيعقد القضية ويهيئها ويهيىء الحجج والبراهين والمستندات اللازمة وكل الأدلة والقرائن وهي إن المحامي سيمنع وقوع الحد، فإن الشرع الحنيف -ولله الحمد- لا يتعطش إلى إقامة الحدود أبداً.
وبعد هذا كله هل يمكن أن ندعي بأن المحاماة ما هي إلا شفاعة في الحدود لكي يترك المتهم تحت سطوة التهمة وعظمة بلواها بحيث لا يستطيع أن يدافع عن نفسه بحكم الكرب الذي وقع فيه، أما المحامي فبحكم علمه وإطلاعه وبعده عن هذا الكرب، يستطيع أن يجمع الأدلة ويعد الدفوع للدفاع عن المتهم ولإقناع القاضي ببراءته من التهمة الموجهة إليه.
- الشبهة السادسة: المحاماه قرينة بمهنة صناعة الخمر وبيع لحم الخنزير، فهي من الحرف التي لا تجيزها أصول الشريعة.
الرد على الشبهة: صاحب هذه الشبهة يقيس مهنة صناعة الخمور وبيع لحم الخنزير بمهنة المحاماه وهذا يؤدي إلى إن المحاماة المحرمة بين المسلمين حل لسواهم. وهذا أمر لا يقوله أحد من أهل القبلة إلا بدليل شرعي قطعي الدلالة والثبوت.
* أدلة المجيزين:
المحرمون لمهنة المحاماة هم قليلون جداً و أدلتهم النقلية تكاد تكون معدومة، وأدلتهم العقلية من السهل الرد عليها. أما المجيزون لهذه المهنة فهم كثر جداً : وقد استدلوا بأدلة نقلية وعقلية كثيرة نوردها بالترتيب التالي:
أولاً- القرآن الكريم:
في القرآن الكريم ما يدل دلالة قطعية على جواز الاستعانة بمن هو أفصح لساناً وأكثر بياناً، وأقدر على إظهار الحجة وتمحيص الأدلة والقرائن والمناقشة وغير ذلك. ولعل الآيات الكريمة تبين ذلك.
قال تعالى: (قالَ ربِّ إنِّي قَتلتُ مِنهُم نفسَاً فَأخَافُ أَن َيقتُلونِ * وأَخِي هَارونُ هُوَ أَفصحُ مِنّي لِسَاناً فَأَرسِلهُ مَعي رِدْءاً يُصَدِّقُنِيَّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكذِّبونِ قَالَ سَنشُدُّ عَضُدكَ بأخيكَ وَنجعلُ لـكمَا سُلطانـاً فَلا يَصِلونَ إليكمُـا بِـآياتِنـا أنتمَـا ومَنِ اتَّبعكمَا الغَالبون). موسى عليه السلام بعد أن قتل القبطي خاف أن يقتلوه لهذه الفعلة ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه دفاعاً حسناً لما فيه من حبسة لسانه وصعوبة النطق. لذلك طلب من ربّه أن يشد عضده بأخيه، لأنّه أفصح لساناً وأكثر قدرة على استعمال الحجـج والبراهين. أما هارون عليه السلام فإن دوره يشبه وظيفة المحامي الفصيح العالم بأساليب الجدال وتقديم الدفوع والطلبات. في هذه الآية دليل واضح على شرعية المحاماة في شرع الله سبحانه وتعالى.
قول الله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم * قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يومٍ قالوا ربكم أعلمُ بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعامًا فليأتكم برزقٍ منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدًا).
قال الإمام القرطبي: (في هذه البعثة بالــورق دليل على الوكالة وصحتها).
كذلك قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقَاْتُ للفُقَرَاْءِ وَالمَسَاكِينِ والعَامِلِينَ عَلَيْهَا والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيْلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيْلِ فَرِيْضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ). فجواز العمل على الزكاة يفيد حكم الوكالة عن المستحقين في تحصيل حقوقهم : قال الإمام النووي : (قد تعلق علماؤنا في صحة الوكالة من القرآن بقولـه تعالى: (والعاملين عليها) وبقوله: (اذهَبُوا بِقَمِيْصِي هَذَا فَاَلقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ). وآية القميص ضعيفة في الاستدلال وآية العاملين حسنة.
وهناك من يحتج بصحة الوكالة بالخصومة (المحاماه). بقول الله تعالى: (وإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعثوا حَكَمَاً مِن أَهلِهِ وَحَكَمَاً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيْدَا إِصلاحَاً يوفِّق الله بينهما إنَّ اللهَ كانَ عليماً خبيراً).
قال الإمام القرطبي لبيان خطأ من يحتج بهذه الآية للبرهان على شرعية الوكالة: (هذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان و للوكيل إسم في الشريعة ومعنى، وللحكم إسم في الشريعة و معنى، فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ فكيف لعالم أن يركب معنى أحدهما على الآخر! وقد روى الدار قطني من حديث محمد ابن سيرين عن عبيدة في هذه الآية (وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها…).
جاء رجل وامرأة إلى الإمام علي سلام الله عليه، فأمرهم فبعثوا حكمًا من أهله و حكمًا من أهلها، وقال للحكمين: (هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي. وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال عليه السلام: كذبت، والله لا تبرح حتى تُقر بمثل الذي أقرت به…فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما: أتدريان ما عليكما؟ إنما كان يقول: أتدريان بما وكلتما؟.
وبعد أن بين لنا الأمام القرطبي عدم صحة الإحتجاج بهذه الآية لشرعية المحاماة أورد آية أخرى يمكن أن تبين شرعية المحاماة من حيث أنها تعاون على رفع الظلم وبيان الحق وهو نوع من أنواع البر والتقوى. قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثـم والعـدوان واتقـوا الله إنّ الله شـديد العقاب). وهو أمر من الخالق العظيم لجميع خلقه بالتعاون على البر والتقوى و(البر يتناول الواجب والمندوب إليه والتقوى رعاية الواجب. فعلى العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الفني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وعلى المحامي الشرعي أن يعين المسلمين الدفاع عن حقوقهم، فيبين لهم الحق من الباطل كما يبين لهم الطرق الكفيلة بإسترداد حقوقهم المغتصبة، وأموالهم المعرضة للخطر.
ثانياً- السنة النبوية الشريفة:
لا يخلوا كتاب إلا وقد بينت طيات صفحاته عدد حسن من الأحاديث التي تدل دلالة المفهوم أو المنطوق على شرعية المحاماه. قال الأمام الشوكاني: أما كون الوكالة تجوز في كل شيء، فلأنه قد ثبت منه صلى الله عليه وآله وسلم التوكيل في قضاء الدين، كما في حديث أبي رافع رضي الله عنه إنه أمر أن يقضي الرجل بكره. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم التوكيل في إستيفاء الحد كما في حديث: (وأغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن أعترفت فأرجمها). وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم التوكيل في القيام على غنمًا وتقسيم جلالها وجلودها، وهو في الصحيح وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم التوكيل في حفظ زكاة رمضان، كما في صحيح البخاري في حديث أبي هريرة وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأن أعطى عقبة بن عامر غنماً يقسمها بين أصحابه، لتقدم في الضحايا وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال لجابر: (إذا أتيت وكيلي فخذ من خمسة وسقًا) كما أخرجه أبو داود و الدارقطني. وإني لأجد أصول الوكالة بالخصومة (المحاماة) في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار). وفي سنن أبي داود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار). في هذا الحديث وصف لأحوال الناس أمام القضاء من خلال إظهار تفاوتهم في البيان والآراء وهذا التبيان يؤدي إلى خلل في ميزان العدل، فالذي يملك لسانًا طلقًا وأسلوبًا متينًا مزخرفًا بالحجج المركبة والبراهين المستعارة يستطيع أن يقلب الباطل حقًا، والحق باطلًا. أما الخصم الآخر فيقع لقمة سهلة المضغ أمام لحن خصمه وحجته. أما إذا إستعان الخصم الضعيف بوكيل يملك من العلم ما يملك فإنه يستطيع أن يدحض حجة وبراهين خصمه، ويرجع الحق إلى أصحابه. ولعل هذه القصة تبين استحسان إتخاذ المقصّر وكيلًا يعادل خصمه بلاغة وحججاً. كما وقع في تاريخ القضاء مرات. ومن ذلك أيضًا ما رواه الخشني في قضاة قرطبة، قال: (اختصم إلى أحمد ابن تقي رجلان، فنظر إلى أحدهما يحسن ما يقول ونظر إلى الآخر لا يدري ما يقول وأراه توسم فيه ملازمة الحق فقال: يا هذا لو قدمت من يتكلم عنك وأرى صاحبك يدري ما يتكلم. (فقال له أعزك الله إنما هو الحق أقوله كائناً، فقال القاضي : ما أكثر من قتله قول الحق). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بتمر بريّ، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم : من أين هذا؟ قال بلال : كان عندنا تمر رديّ ، فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عند ذلك: (أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم أشتره). ولا جرم أن هذا الحديث يتكلم عن الوكالة ولكن يجب أن لا يخفى عن القارئ اللبيب أن الوكالة هي القاعدة الصحيحة للمحاماة الشرعية. وقد بوب البخاري عليه رحمة الله أحد أبواب صحيحه بباب الوكالة وبدأ كتابه بحديث للإمام علي عليه السلام: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أن أتصدق بجلال البدن التي نحرت وبجلودها). وعن عروة الباروني صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنّ رسول الله أعطاه ديناراً ليشتري به شاة فأشترى به له شاتين. فباع أحدهما بدينار. فجـاء بشـاة ودينار فدعـا له بالـبركة في بيته. فكان لو أشترى التراب ربح فيه). وعن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أردت الخروج إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقاً). ففي هذا الحديث دليل واضح على شرعية الوكالة وتعلق الأحكام بالوكيل. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه). وقد فسر بن رجب الحنبلي رحمه الله النصيحة للمسلمين بأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم ويرحم صغيرهم ويوقر كبيرهم، يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم وإن ضره ذلك في دنياه كرخص أسعارهم وإن كان في ذلك فوات ربح ما يبيع من تجارته وكذلك جميع ما يضرهم عامة، ويحب ما يصلحهم وألفتهم ودوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم ودفع كل أذى ومكروه عنهم. وقال الخطابي: (النصيحة لعامة المسلمين وإرشادهم إلى مصالحهم). ولا جرم في أن المحامي المسلم يستطيع أن يقدم النصيحة لموكله فيدفع عن نفسه ما يكره ويضر مصالحه كما يستطيع أن ييسر لموكله ما ييسر عليه من قضايا ومصالح، فيكون المحامي خير من يوصله إلى بر الأمان. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الدين النصيحـة لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم). الشاهد في هذا الحديث النصيحة لعامة للمسلمين . إذ يستطيع المحامي أن يرشد المسلمين إلى ما يصلح دنياهم وذلك بكف الأذى عنهم وتعليمهم الأنظمة وما يجهلونه. كما يستطيع أن يستر عوراتهم ويعلمهم واجباتهم وحقوقهم وكيفية المطالبة بها والدفاع عنها والمحافظة عليها. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). هذا الحديث الشريف يبين لنا قاعدة جليلة في رفعتها وعامة في حكمها وهي : أن جميع الأعمال والأفعال بالنيات، أي أن المحامي إذا كانت نيته الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم فإن عمله هذا صحيح وشرعي. أما إذا كانت نيته الكسب المادي بأي شكل من الأشكال ولو كان ذلك بإهدار الحقوق وإنتهاك الحرمات فلا شك بأن عمله غير شرعي وكسبه حرام .
ثالثًا- الإجمــــــــــاع:
قال الأستاذ سيد سابق (أجمع المسلمون على جوازها بل على استحبابها لأنها نوع على التعاون على البر والتقوى الذي دعا إليه القرآن الكريم وحببت فيه السنة. يقول سبحانه وتعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب). وقال الشيخ الكوهجي: (انعقد الإجماع على جوازها). وقال الإمام النووي: (الإجماع منعقد على مدى الدهر منذ نزل الوحي إلى اليوم وإلى يوم الدين). وقال الأمام الشوكاني: (وقد قام الإجماع على مشروعيتها). وربما يقول قائل إن كل هذه الأقوال تثبت مشروعية الوكالة، وليس مشروعية المحاماة نقول بأن المحاماة التي نحاول صياغتها تعتمد إعتمادًا ربما كليًا على الوكالة في حكمها وشروطها بالإضافة إلى وحدة العلة بين الوكالة والمحاماة، والتي سوف نراها في الدليل الخامس إن شاء الله تعالى.
رابعًا- الأثــر:
توجد في بطون الكتب آثارًا كثيرة تبرهن على أصالة المحاماة في المجتمع الإسلامي أورد منها: روي أن الإمام علي سلام الله عليه وكّل عقيلًا رضي الله عنه عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال: (ما قضى له فلي، وما قضى عليه فعلي ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان رضي الله عنه، وقال عليه السلام إن للخصومات قحمًا) فهذا الأثر يدل دلالة واضحة على شرعية المحاماة وأن عقيلاً وعبد الله بن جعفر هما محاميان لدى الإمام علي عليه السلام. قال الإمام القرطبي: (الوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام ألا ترى إلى عبد الرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة أي يحفظهم، وأمية مشرك، التزم عبد الرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه). وذهب الإمام السرخسي في المبسوط إلى أنه (قد جرى الرسم على التوكيل على أبواب القضاة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا زجر زاجر). أما الأثر الثاني فقد جاء على لسان عبد الله بن جعفر(خاصمني طلحة بن عبيد الله في ضفير أحدثه الإمام علي عليه السلام بين أرض طلحة وأرضه فوقع عند طلحة أن عليًا قد أضر به، وحمل عليه السيل و لم ير على ذلك ضررًا حين أحدثه. قال فوعدنا عثمان أن يركب معنا فينظر إليه. فقال إني و طلحة نختصم في المواكب، فسار عثمان حتى رأى الضفير، فقال: ما أرى ضررًا، وقد كان على عهد عمر، ولو كان جورًا لم يدعه. وإنما قال ذلك، لأن عمر كان معروفًا بالعدل ودفع الظلم. كذلك فقد كانت بين حسان بن ثابت و بين بعض الناس منازعة عند عثمان بن عفان، فقضى عثمان على حسان، فجاء حسان إلى عبد الله بن عباس فشكا ذلك إليه ، فقال له ابن عباس: (الحق حقك ولكن أخطأت حجتك، انطلق معي . فخرج به حتى دخلا على عثمان فاحتج له ابن عباس حتى تبين عثمان الحق فقضى به لحسان بن ثابت). وهذا الأثر واضح الدلالة من دون أي تفسير أو تأويل على أصالة المحاماه في التاريخ الإسلامي، فحسان بن ثابت شاعر رسول الله يجيد الشعر وصوغه، بيد إنه لا يستطيع أن يصيغ أقواله بقوالب من الشرع الحنيف تبين و تثبت حقه. بل هذه مهمة عبد الله إبن عباس رضوان الله عليه الذي فقه قضية حسان وبيّن للقاضي الحق فقضى به. ونسوق من كتاب الوثائق والسجلات للفقيه ابن العطار المتوفى سنة 399/ 1008 م وهو يجري على هذه الصورة:
(وكل فلان فلانًا عند القاضي فلان قاضي الجماعة بقرطبة على المخاصمة عنه وله و على الإقرار عليه، والإنكار عنه بوكالة التفويض التامة التي أقامه فيها مقام نفسه وقبل فلان توكيله). وإن كانت وكالة جامعة أضاف بعد قوله: (وعلى الإقرار عليه والإنكار عنه)(وطلب حقوقه واستخراجها وتقاضي الأعمال إن وجـبت له و قبض حقوقه والبيع عليه و الابتياع له والمصـالحة عنه لغير خصم). ثم يقول: (شهد على إشهاد الموكل فلان و الموكل فلان على أنفسهما بما ذكر عنهما في هذا الكتاب من عرفهما وسمعه منهما، وهما في حال الصحة وجواز الأمر، وذلك في شهر كذا من سنة كذا. هذا نص صريح من بطون الكتب يبين نماذج من العقود التي تحرر بين الموكلين والوكلاء في الخصومات، وما ينبغي أن تكون عليه من دقة. وفي كتب التاريخ وتراجم القضاة إن هناك وكلاء يخاصمون عن الناس بين يدي القضاة لمعرفتهم بالكتاب والسنة والفقه ووجوه الفتوى والتشريع وكان الوكيل لا يخاصم عن موكله إلا بوثيقة موثقة يقدمها إلى القاضي تشهد له بانه موكل بالخصومة.
خامسًا- المعقول:
إن الله تعالى خلق الناس متفاوتين في المواهب والقدرات، وفتح لهم أبواب الرزق، ويسر لكل منهم سبيلًا، أو أكثر للكسب والمعاش. فمنهم من أوتي القدرة والكفاءة التي تجعله على استعداد لأن يباشر جميع أعماله بنفسه، إلا أنه قد تتوالى عليه الشواغل وتتزاحم عليه الأعمال فيضطر إلى الاستعانة بالآخرين. ومن الناس من لم يأتي من القدرة والكفاءة ما يؤهله للقيام بأعمال قد يكون هو بأمس الحاجة إليها. وقد تكون لديه القدرة والكفاءة، لكن تنقصه الخبرة في عمل من الأعمال أو مصلحة من المصالح، ومنهم من يكون صاحب حق، ولكنه لم يؤت من الحجة واللسان والفصاحة والبيان ما يجعله قادراً على أن يظهر حقه ويدافع عن نفسه وقد يكون خصمه ألحن منه في حجته، فيقلب باطله حقًا. من أجل ذلك كله كانت الحاجة ماسة إلى الإعتماد على غيرهم والإستفادة من خبراتهم في بعض أعمالهم، قليلة كانت أم كثيرة فكانت المصلحة في تشريع الوكالة سدًا للحاجة وتيسيرًا للمعاملة، ورفعًا للحرج الذي جاء به شرع الله تعالى ليرفعه إذ قال: (وما جعل عليكم في الدين من حرج). وقال إبراهيم بن علي في تبرير الوكالة بالخصومة: (لأن الحاجة تدعو إلى التوكيل بالخصومات، لأنه قد يكون له حق أو يُدّعى عليه حق ولا يحسن الخصومة أو يكره أن يتولاها بنفسه فجاز أن يوكل فيه ذلك من غير رضى الخصم). وبعد كل هذه الأدلة النقلية والعقلية يتبين أن المحاماة شرعية وأصلية في الشريعة وفقه الشريعة الإسلامية. والمحاماة أصبحت في العصر الحاضر فنًا من الفنون، وعلم من العلوم التي لا يستغنى عنها للحفاظ عن الحقوق والدفاع عنها . و أختم بقول الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. صدق الله العلي العظيم.
ينظر في ذلك إلى كتيب هل المحاماة حلال أم حرام؟ تأليف الشيخ المحامي الدكتور مسلم اليوسف.