نشأة وتطور نظام القضاء المزدوج في فرنسا - المرشد القانوني

نشأة وتطور نظام القضاء المزدوج في فرنسا

 يقوم النظام القضائي الفرنسي على أساس ثنائية التكوين، إذ تتولى حسم المنازعات جهتان قضائيتان، تختص إحداهما في الفصل بالمنازعات الناشئة بين الأفراد وتعرف بالقضاء العادي، وتختص الأخرى في حسم المنازعات التي تنشأ بين الأفراد والإدارة وتعرف بالقضاء الإداري وقد نشأ القضاء الإداري في فرنسا نتيجة عوامل مختلفة، واستمر في تطوره حتى انتهى لما هو عليه الآن، ولذلك سنبحث في عوامل نشأة هذا النظام وتطوره في فرنسا.

نشأة القضاء المزدوج في فرنسا

تعود أسباب وظروف نشأة القضاء المزدوج في فرنسا إلى عاملين أساسين أحدهما قانوني والآخر تاريخي:

1. فهو يعد في نظر الفرنسيين تطبيقًا لمبدأ الفصل بين السلطات الذي إعتنقه رجال الثورة الفرنسية, ذلك أن هذا المبدأ في نظرهم يعني فصل الهيئات الإدارية عن الهيئات القضائية فصلاً تامًا. وهذا التفسير الضيق لمبدأ الفصل بين السلطات يقوم على الفصل التام والمطلق بين السلطات الثلاث في الدولة (التشريعية, والتنفيذية, والقضائية) وإستقلال الواحدة منها عن الأخرى استقلالاً تامًا لا يسمح بأية رقابة متبادلة يمكن أن تنشأ بين هذه السلطات, لا سيما بين السلطتين القضائية والتنفيذية (الإدارية), إذ ينبغي أن لا تخضع الإدارة لسلطة المحاكم العادية. ولا شك أن هذا التفسير يخالف التفسير الذي أعتمده الإنجليز لمبدأ الفصل بين السلطات الذي يعني في تقديرهم تخصص كل سلطة من السلطات الثلاث في وظيفة معينة في ظل تعاون وبناء بينها.

2. ويدعم العامل السابق اعتبار تاريخي, فقد كانت المحاكم القديمة المسماة بالبرلمانات في ظل النظام الملكي, تسرف في التدخل في أعمال السلطة التنفيذية, كما أنها وقفت حاجزًا أمام محاولات الإصلاح التي كان النظام الملكي يعتزم إجراءها, فضلاً عن أنها أظهرت موقفًا معاديًا للثورة, ولذلك فقد كان من أوائل القرارات التي اتخذتها الجمعية الوطنية التأسيسية التي أنشاها رجال الثورة إلغاء هذه المحاكم, فقد عد الثوار فكرة إخضاع منازعات الإدارة للمحاكم العادية فكرة معادية لما تعتزم الثورة القيام به من تجديد, واستبدلت المحاكم القديمة بأخرى جديدة, لكن موقف الجمعية التأسيسية لم يتغير إذ ظلت تتمسك بمسألة استقلال الإدارة التي تقضي عدم إخضاعها بأي شكل من الأشكال للمحاكم القضائية بما فيها المحاكم الجديدة التي خلفت نظام البرلمانات نتيجة الذكريات الأليمة التي خلفتها هذه المحاكم, وفي ظل هذه الذكريات ونظرة الشك وسوء الظن وعدم الثقة إزاء المحاكم القديمة صدر قانون 16 - 24 أغسطس (آب) سنة 1790 والذي تنص المادة الثالثة عشرة منه على أن (الوظائف القضائية متميزة وتظل دائمًا منفصلة عن الوظائف الإدارية, فالقضاة لا يستطيعوا وإلا تعرضوا للعقاب الإخلال بأي شكل من الأشكال بأعمال الجهاز الإداري كما لا يستطيعوا استقدام الإداريين أمامهم لأسباب تتعلق بوظائفهم.

تطور نظام القضاء المزدوج في فرنسا

ترتب على مبدأ استقلال الهيئات الإدارية والقضائية, ومنع المحاكم القضائية من النظر في المنازعات الإدارية, أن عهد إلى الإدارة نفسها بهذه المهمة مما قاد إلى ظهور نظام الإدارة القاضية, وبموجبه فإن على من يريد أن يتظلم من خطأ أحد الموظفين فعليه أن يرفع هذا التظلم إلى جهة الإدارة نفسها, وبذلك أصبحت الإدارة خصمًا وحكمًا في آن واحد, ولم يكن ممكنًا أن يستمر هذا النظام على هذا النحو, فأنشأ نابليون بونابرت بموجب دستور السنة الثامنة للجمهورية الأولى مجلس الدولة وتلاه في السنة نفسها إنشاء مجالس دواوين المديريات في الأقاليم المختلفة.

واريد لهذا المجلس أن يكون هيئة استشارية تقوم إلى جانب الإدارة العاملة تتولى فحص المنازعات الإدارية وتقديم مشروعات مراسيم بشأنها, على أن تصدق تلك المراسيم من رئيس الدولة وتتضمن القرارات النهائية لحسم المنازعات. أي أن هذا المجلس لم يكن جهة قضائية بالمعنى الصحيح, لأنه لم يكن يملك إصدار أحكام قضائية لا معقب عليها من سلطة أخرى, بل كان جهة استشارية فحسب, ولذلك وصف اختصاصه آنذاك بأنه مقيد ومحجوز, فهو محدود بإبداء آراء استشارية بشأن المنازعات الإدارية التي تعرض عليه من جهة, وغير بات بل معلق على تصديق رئيس الدولة من جهة أخرى, فضلاً عن أن إنشاء المجلس وفقًا للاختصاصات المذكورة لم يكن من شأنه إلغاء نظام الإدارة القاضية.

ثم توج هذا التطور بصدور قانون 24 مايو (أيار) سنة 1872 والذي نص على إنشاء (محكمة التنازع) كجهة قضائية تتولى الفصل في حالات تنازع الاختصاص بين المحاكم العادية والمحاكم الإدارية. والذي بموجبه أصبح مجلس الدولة محكمة قضائية بالمعنى الصحيح, فصارت له سلطة إصدار أحكام نهائية غير معلقة على تصديق رئيس الدولة, بمعنى أن اختصاصه بموجب هذا القانون أصبح باتًا أو مفوضًا, ويرى بعض الفقه إن فكرة الإدارة القاضية ظلت تشوب صفاء هذا التطور الكبير الذي تحقق سنة 1872, فقد بقي الوزير محتفظًا بصفة قاضي القانون العام بالنسبة للقضايا التي لم يجعلها قانون 24 مايو 1872 صراحة ضمن اختصاصات مجلس الدولة, ولذلك فإن النهاية الحقيقية لنظام الإدارة القاضية كانت منذ قضية (CADOT) في 13 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1889, حيث اصبحت القضايا توجه إلى المجلس مباشرة.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الأسس التي قام عليها نظام القضاء المزدوج في فرنسا والتطور الذي لحقه, توحي بأن الدافع لإنشاء القضاء الإداري إلى جانب القضاء العادي هو حماية الإدارة من تعسف المحاكم العادية القديمة وإسرافها في التدخل في شؤون الإدارة, إلا أن هذا الاعتبار التاريخي قد زال في الوقت الحاضر, وأثبت القضاء الإداري الفرنسي بعد نشأته أنه أكثر جرأة وثبات في حماية حقوق الأفراد وحرياتهم ضد اعتداء الإدارة وتجاوزاتها, ويشير د. محمود محمد حافظ في معرض تدليله على جرأة القضاء الإداري قياسًا بالقضاء العادي في رقابته على أعمال الإدارة إلى ما حدث في 5 يناير (كانون الثاني) سنة 1924, فقد عرض قراران إداريان أحدهما أمام مجلس الدولة والآخر أمام محكمة النقض الفرنسية, والقراران متشابهان تمامًا من حيث السلطة التي أصدرتهما وظروف إصدارهما, ومع ذلك فقد حكم مجلس الدولة بإلغاء القرار المعروض عليه لعدم مشروعيته, في حين حكمت محكمة النقض في نفس اليوم بمشروعية القرار المعروض عليها وبصحة الحكم بعقوبة على مخالفة هذا القرار المتفق مع القانون في نظرها.

وعلى ذلك يمكن القول إن الأساس الجديد الذي يسوغ قيام القضاء الإداري يتجسد فيما استطاع هذا القضاء, عن طريق المبادئ القانونية التي صاغها في أحكامه, أن ينشئ قانونًا جديدًا متميزًا عن القانون المدني هو القانون الإداري بما يتضمنه من قواعد تستطيع التوفيق بين حقوق الأفراد وحرياتهم من جهة وحاجات الإدارة ومقتضيات الصالح العام من جهة أخرى. والقضاء الإداري هو الأكثر إلمامًا بقواعد القانون الإداري لأنه  من صنعه وبهذا فهو الأقرب إلى طبيعة الإدارة وحقيقة مشكلاتها وأساليب عملها, ومن ثم فهو الأقدر على تقدير ظروفها وحجم حاجاتها بما يمكنه من ضبط نشاطها على نحو يمنع انحرافها ويضمن حقوق الأفراد من تعسفها.


- الكتاب : القضاء الإداري.
- المؤلف : د. وسام صبار العاني.
- الصفحة : 102 - 106.
اهلاً بكم في مدونة المرشد القانوني

نلفت أنظاركم إلى مستودع في غاية الأهمية على منصة التيليجرام علمًا هو متخصص بإرفاق المصادر القانونية من حيث المعاجم والكتب والمجلات والاطاريح والرسائل.

حسناً