مبدأ تدرج القواعد القانونية وجزاء مخالفته - المرشد القانوني

مبدأ تدرج القواعد القانونية وجزاء مخالفته

 إن مصادر المشروعية ليست على درجة واحدة من القوة وإنما هنالك مصادر تعلو على مصادر أخرى, أو بعبارة أدق هناك بعض القواعد تتمتع بقوة إلزامية أعلى مما تتمتع به القواعد الأخرى التي تأتي بعدها في المرتبة, ومن ثم يجب على كل سلطة وهي بصدد ممارسة نشاطها التشريعي أن تراعي أحكام القواعد القانونية الأعلى, إذ لا يجوز للقاعدة الأدنى أن تخالف القاعدة الأعلى مرتبة منها وإلا كان تصرفها غير مشروع, وترتب عليه نتائج خطيرة.

فالدولة القانونية هي دولة يسود فيها القانون أفرادًا وهيئات على سواء, والمقصود بالقانون هنا معناه الواسع الذي يشمل الدستور وأحكام المعاهدات الدولية والقوانين والأنظمة والأحكام القضائية إلى جانب الأعراف ومبادئ القانون العامة. لذلك فإن تدرج القواعد القانونية شكلاً وموضوعًا يعد من أهم عناصر هذه الدولة, فضلاً عن وجود الدستور, وإعتماد الفصل بين السلطات, ووجود رقابة قضائية على أعمال الإدارة. وطبقًا للمعيار الشكلي فإن القواعد الدستورية تحتل قمة هرم القواعد القانونية المكتوبة, ثم تأتي بعدها قواعد التشريع العادي, ثم الأنظمة (اللوائح) أو القرارات التنظيمية, في حين أن المبادئ القانونية العامة تأتي بمرتبة القواعد التشريعية العادية بوصفها من المصادر غير المكتوبة للمشروعية, ثم يجيء بعد ذلك العرف الذي هو بمرتبة أدنى من النص التشريع.

ويستند المعيار الشكلي (العضوي) في هذا التدرج على مرتبة السلطة التي أصدرت القاعدة القانونية والإجراءات المتبعة في ذلك, فالقاعدة الصادرة من سلطة أعلى تعد أعلى مرتبة من القاعدة الصادرة في مرتبة أدنى, فإذا صدرت قاعدتان من سلطة واحدة, كانت الإجراءات المتبعة في إصدارهما هي المرجح بينهما, فالقاعدة التي تصدر وفق إجراءات أشد تكون أعلى مرتبة من تلك التي لا تتطلب لإصدارها سوى إجراءات عادية أو لا تتطلب أية إجراءات. ويترتب على ما تقدم أن السلطة التأسيسية الأصلية هي أعلى من السلطة المؤسَسة لأنها هي المنشئة لها, والسلطة التشريعية أعلى من السلطة التنفيذية لأن الأولى هي المختصة أصلاً بوظيفة التشريع في حين أن السلطة التنفيذية الإدارة تمارس هذا الاختصاص على سبيل الاستثناء, وعليه فالدستور يعلو على القانون العادي, وهذا الأخير يعلو على النظام أو القرار الإداري التنظيمي, مع ملاحظة أن الهيئات والمصالح الإدارية تتدرج فيما بينها هي الأخرى على شكل سلم إداري, ومن ثم تتدرج أعمال هذه الهيئات بحسب مرتبة كل هيئة أو مصلحة.

وإلى جانب المعيار الشكلي يوجد معيار آخر هو المعيار الموضوعي (المادي) الذي يستند إلى موضوع القاعدة ومحتواها في تحديد مرتبة القواعد القانونية, فتتدرج هذه القواعد طبقًا لهذا المعيار تبعًا لمدى عموميتها وتجريدها بغض النظر عن السلطة التي أصدرت الإجراءات المتبعة  في شأنها.

ويعد المعيار الشكلي هو المعيار الأنسب لترتيب تدرج القواعد القانونية لسهولته ووضوحه, ولذلك فهو يكاد يكون مذهب القانون الوضعي في كل من فرنسا ومصر والعراق وهو الراجح فقهًا. وعلى الرغم من تفضيلنا لهذا المعيار للأسباب المتقدمة, إلا أن هذا المعيار عديم الجدوى في حالات أو فترات اندماج السلطات, حيث تركز الوظيفة التشريعية والتنفيذية في يد هيئة واحدة فتستطيع هذه الهيئة تبعًا لذلك أن تصدر قرارات لها قوة القانون إضافة إلى القرارات ذات الصلة اللائحية. ولذلك يمكن أن يمارس المعيار الموضوعي (المادي) دورًا تكميليًا, إذ يمكن اللجوء إليه في حالة فشل المعيار الشكلي (العضوي) في تحديد مرتبة العمل أو التصرف, فالقرارات الإدارية التنظيمية والفردية مثلاً تصدر من الجهة ذاتها وهي الإدارة, وقد تكون الإجراءات المتبعة في إصدارها واحدة لذا ينبغي اللجوء في هذه الحالة إلى المعيار الموضوعي لتحديد مرتبة العمل, فالقرار التنظيمي أعلى مرتبة من القرار الفردي, لأن القرار التنظيمي يتضمن قواعد عامة ومن ثم تكون القرارات الفردية المخالفة له غير مشروعة حتى ولو كانت القرارات الفردية صادرة من هيئة إدارية أعلى درجة من تلك التي أصدرت القرار التنظيمي.

وبناء على ما تقدم فلابد لأي سلطة عند قيامها بممارسة اختصاصها التشريعي أن تلتزم بأحكام القواعد القانونية التي تعلوها  مرتبة حتى يكون عملها مطابقًا للمشروعية. ومعنى ذلك أن القوانين التي تقرها السلطة التشريعية وتخالف بها أحكام الدستور تكون باطلة, ومن ثم يمكن أن يحكم القضاء بعدم دستوريتها, فضلاً عن هذا فإن الأنظمة أو القرارات التنظيمية التي تصدرها السلطة التنفيذية وتخالف بها أحكام الدستور أو القوانين العادية تكون باطلة أيضًا, لذا فمخالفة التدرج القانوني يثير نتائج عدة أهما عدم الدستورية, والبطلان; وذلك حسبما يأتي تفصيله :

عدم دستورية القوانين: لما كان الدستور يحتل المرتبة العليا في التدرج التشريعي  فإن قواعده تتضمن أسمى القواعد في النظام القانوني كله, ويترتب على ذلك أن على التشريع العادي أن يحترم الدستور وأن لا يخالفه, وهو ما يجب من باب أولى على التشريع اللائحي الذي تضعه الإدارة. وبمعنى أخر ينبغي أن يكون التشريع دستوريًا أي موافقًا للدستور. فالرقابة على الدستورية تستهدف ضمان أعلوية الدستور وسموه ومنع وجود أي تشريع يخالفه, مما يؤكد تلك الأعلوية وذلك السمو على جميع القواعد الأخرى. ولا شك أن الرقابة على دستورية القوانين تثور على صعيد الدساتير الجامدة, سواء نص الدستور على ذلك أم لم ينص, فمخالفة القوانين للدستور يجعلها باطلة, وهذا الأمر نتيجة حتمية لمبدأ المشروعية وتدرج القواعد القانونية, لاسيما إذا كان الدستور القائم ينص على إجراءات خاصة لتعديله, أو كان هذا الدستور يقرر تنظيميًا خاصًا للرقابة على دستورية القوانين.

أما إذا كان الدستور مرنًا فقد يكون من الصعب التوصل إلى تقرير بطلان القوانين المخالفة له ما لم يعترف القضاء بحقه في الرقابة على دستورية القوانين إستنادًا إلى وظيفة القاضي وهي تطبيق القانون بمدلوله الواسع, فإذا تعارضت قاعدة أعلى مرتبة مع قاعدة أدنى مرتبة وجب عليه تطبيق القاعدة الأعلى مرتبة, وبذلك فهو لا يخرج عن نطاق عمله, ولا يلغي القانون, وإنما يستبعد تطبيقه في النزاع المطروح عليه, ويطبق القاعدة الأعلى أي القاعدة الدستورية.

البطلان: إن مخالفة الإدارة لمبدأ المشروعية وخروجها عن أحكام القانون يؤدي إلى بطلان عملها سواء أكان عملاً قانونيًا أم ادبيًا. ويميز فقهاء القانون بين ثلاث درجات للبطلان :

1. الإنعدام/ هو جزاء لتخلف ركن أساس من أركان التصرف القانوني الذي لا يتصور له وجود من دونه, وهي الإرادة والمحل والسبب, ويتحقق الإنعدام في القرارات الإدارية إذا ما اصابها عيب جسيم وواضح مثل عيب عدم الاختصاص الجسيم أو عيب اغتصاب السلطة, لذا يتجرد القرار في هذه الحالة من صفته الإدارية ويخرج عن نطاق القانون الإداري فيكون منعدمًا. ويترتب على إنعدام القرار الإداري النتائج الآتية :

  • القرار المنعدم يفقد صفته الإدارية ويتحول إلى عمل مادي ليس له أية آثار قانونية.
  • لكل ذي مصلحة أن يتمسك بإنعدام القرار الإداري, لأن القرار المعدوم لا يكون قابلاً للتنفيذ المباشر, فهو عقبة مادية في سبيل استعمال ذوي الشأن لمراكزهم القانونية المشروعة, ومن حقهم التخلص من هذه العقبة بوسائلهم الخاصة وإللا لجئوا إلى القضاء.
  • لا يمكن تصحيح القرار المنعدم بالإجازة والتأييد, ويجوز سحبه إداريًا من دون المواعيد المقررة للطعن.
  • يعد تنفيذ القرار المنعدم عملاً من أعمال الاعتداء المادي, فيختص القضاء العادي وليس الإداري بنظره, كما يتحمل الموظف المسؤولية شخصيًا عن تنفيذه.
2. البطلان المطلق/ وهو يلحق التصرف القانوني الذي توافرت له أركان إنعقاده, وهي الإرادة والمحل والسبب, ولكنه يصدر مخالفًا للشروط الموضوعية التي يحددها القانون لهذه الأركان, على النحو الذي يجعل التصرف القانوني موجودًا ولكنه غير مكتمل قانونًا. والقرار الإداري يكون غير مشروع ومحلا للإلغاء إذا أصابه عيب وقف عند التأثير على إحدى الشروط القانونية المقررة لصحة أركانه, فإذا توافرت أركان الإرادة المحل والسبب في القرار الإداري ولكن أختلت أحد شروط صحتها وهي الاختصاص والشكل والإجراءات والمحل والسبب والغاية أو الهدف, كان القرار باطلاً بطلانًا مطلقًا, أي بعبارة أخرى أن القرار إذا أصيب بعيب عدم الاختصاص البسيط أو عيب الشكل, أو عيب مخالفة القانون, أو الإنحراف في استعمال السلطة كان القرار باطلاً بطلانًا مطلقًا.
والقرار الباطل بطلانًا مطلقًا إذا مضت مدة الطعن المقررة فيه أمام القضاء الإداري ولم يطعن فيه من قبل ذوي المصلحة, أو سحبة من قبل الإدارة, يكتسب حصانة ضد السحب والإلغاء ويعد صحيحًا من لحظة صدوره فيزول ما لحقه من عيوب, وهذه الحصانة تمثل استثناء على مبدأ المشروعية تقتضيه ضرورة الحفاظ على إستقرار المعاملات والمراكز القانونية التي تنشأ للأفراد من جراء هذه القرارات الأمر الذي جعل إلغاء أو سحب هذه القرارات مقيدًا بمدة معينة.

3. البطلان النسبي/ وهو الجزاء الذي يلحق التصرف القانوني من جراء إصابته ببعض العيوب الخاصة بالأهلية أو الرضا. وهو لا يؤدي إلى بطلان التصرف تلقائيًا وبقوة القانون, وإنما يبقى التصرف صحيحًا منتجًا لآثاره القانونية حتى يقضى بالبطلان. والبطلان النسبي يتحقق في القانون العام لاسيما في نطاق التصرفات الإتفاقية مثل العقود الإدارية حين يصيبها أحد عيوب الرضا, فضلاً عن ذلك فإنه يتحقق في نطاق القرارات الإدارية متى كانت القاعدة المدعى بمخالفتها قد تقررت لحماية مصلحة الإدارة أو المرفق العام ذاته فيكون التصرف معيبًا وقابلاً للبطلان النسبي, ولكن البطلان هنا يتقرر لصالح الإدارة فلا يستطيع الأفراد الإفادة منه, ومن ثم لا يجوز في البطلان النسبي رفع دعوى إلا من الجهة التي تقررت لمصلحتها القواعد المدعى بمخالفتها.


- الكتاب : القضاء الإداري.
- المؤلف : د. وسام صبار العاني.
- الصفحة : 28 - 35.

اهلاً بكم في مدونة المرشد القانوني

نلفت أنظاركم إلى مستودع في غاية الأهمية على منصة التيليجرام علمًا هو متخصص بإرفاق المصادر القانونية من حيث المعاجم والكتب والمجلات والاطاريح والرسائل.

حسناً