* أثر الطبيعة على المجتمع البشري
يقدر علماء الجيولوجيا عمر كوكب الأرض الذي نعيش عليه، منذ انفصاله عن الشمس، باربعة مليارات ونصف من السنين، ويقسمون الأدوار التي مرت بها الأرض منذ ذلك الحين إلى دور اول يعد من أطول الأدوار زمنا، وفيه كانت الأرض كرة ملتهبة، تتصاعد الأبخرة منها لتتحول إلى سحب كثيفة ممطرة وهناك الدور الثاني الذي أخذت فيه قشرة الأرض بالبرودة وأكتست بطبقة من الجليد، وتكونت المحيطات الواسعة وسلاسل الجبال القديمة. ثم بدأ الجليد بالإنحسار في الدور الثالث نحو القطبين الشمالي والجنوبي من الكرة الأرضية. وتكونت اثر ذلك البحار والبحيرات والجبال الحديثة، وفي هذا الدور ظهرت الحياة في النبات والحيوان. أما الدور الرابع وهو الدور الحالي للكرة الأرضية فيذهب العلماء إلى أن عمر هذا الدور يزيد على مليونين أو ثلاثة ملايين سنة، وفي هذا الدور ظهر الإنسان منذ فترة تقدر بين ثلاثمائة الف إلى سبعمائة ألف عام. ثم قسم الباحثون العصور البشرية إلى عصر ما قبل التاريخ وهو العصر الذي سبق معرفة الانسان الكتابة وعصر ما بعد التاريخ بعد أن تعلم الانسان الحرف وشكل ذلك طفرة نوعية هامة في سبيل رقيه وبداية معرفته للأشكال الأولى من التنظيم القانوني والإجتماعي. ويقسم العلماء مرة أخرى عصر ما قبل الكتابة حتى بداية العصر التاريخي (أي ظهور الكتابة) إلى عدة أقسام. فهناك من يتحدث عما يسمى بالعصر الجليدي الذي يرتبط حسب ادعاء أصحاب هذا الإتجاه بما يقابله من العصور الإجتماعية، التي تمثل بداية وجود الإنسان ذاته على الكرة الأرضية لأول مرة في نهاية هذا العصر. وفي ميدان النشاط الإنساني وطريقة معيشة الإنسان، يقابل هذا العصر، دون الخمول الذي يقوم على انکار طاقة الفرد ونشاطه، وبالتالي الي تصوير الانسان بالعاجز عن التأثير في مجرى حياته المعاشية، لأنه ليس أكثر من بهيمة، حسب زعمهم، تقتات على ما تمتد إليه يدها دون جهد وعناء. وفي ميدان التنظيم الإجتماعي، لم تكن هناك قواعد منظمة، ولا أسطورة سلطوية، ولا حكام يقدسون ويتبعون.
ويأتي في المرحلة اللاحقة ما يسمى بالعصر الحجري، الذي يتضمن هو الآخر ثلاث مراحل، اولها العصر الحجري القديم، الذي عاش فيه الإنسان متنقلا يتغذى على ما يجمع من جذور الأعشاب وثمار الغابات، وما يحصل عليه من لحوم الحيوانات الضعيفة التي يقوى على صيدها أو مما خلفته الحيوانات الكاسرة من بقايا فرائسها. وقد استطاع في هذا الزمن اكتشاف النار لكي يتدفئ بحرارتها ويستضيء بنورها ويستعين بها في طرد الحيوانات من داخل المغاور والكهوف التي كان يأوي إليها ومنعها من الاقتراب منها. وقد اتخذ من الحجارة والعظام دون تهذيب أو بتهذيب بسيط أدوات يستعملها في حاجاته البسيطة. وقد أفترض الباحثون أن الإنسان في هذا الزمن كانت له طبيعة وحشية لا تخضع لضابط أو رابط، ويتميز عن الإنسان في العصر السابق بظهور سلطان القوة وخضوع الضعيف إلى القوي في العلاقات التي كانت محلها النزاع حول ما يحصل عليه أحد الأفراد من طعام وقوت، بالنظر لعدم وجود سلطة يدين لها الأفراد والجماعات بالخضوع والالتزام بأحكامها.
ويبدو أن ما تقدم هو الذي دفع بعض العلماء إلى تسمية هذا العصر بعصر الوحشية أو عصر التقاط الأقوات، لأن الإنسان كان يحصل منه على قوته من جمع الثمار التي تجود بها الطبيعة أو من صيد الحيوان أو السمك .
أما المرحلة الثانية من العصر الحجري فهي الزمن الحجري الوسيط، وفيه زاد نمو دماغ الانسان وارتقی ادراکه فأخذ في تهذيب الأحجار الصلبة وصنع منه ما كان يحتاج إليه من أدوات، كما صنع من الصلصال آنية وأوعية، واتخذ من لحاء الأشجار حبالا, جعل منها فخاخا وشباكا، وأخذ في تأهيل وتدجين بعض الحيوانات، وأضحى للجماعة قطعانا من الماشية تجوب بها بحثا عن المرعی.
أما في الزمن الحجري الحديث، فقد أكتمل نمو الإنسان وأخذ بشق الأرض وبذر ما يجمعه من بذور الأعشاب, وفيه اكتشف المعدن فصنع منه الفأس والمحراث وأخذ يزرع الأرض ويستقر فيها واختار الإقامة الى جوار الإنهار لري الارض وسقاية زرعها وفيه نشأت المدن القديمة لتكون قاعدة للحضارات الأولى.
وفي هذا الزمن أعطيت للمجموعات الإنسانية صورة أفضل وارقى تأخذ إطارها من وجود تنظيم العلاقات الإجتماعية في تلك المجموعات الإنسانية ووجود أسطورة السلطة وبمقتضاها اصبح لنفر من الناس الحق، في وضع اطار عام للعلاقات الإجتماعية في قواعد تنظيمية. واصبحت السلطة ملاذًا للضعفاء قبل الذين استكبروا وتجاوزوا تلك القواعد التنظيمية وما وضعت من حدود العلاقات الانسان مع غيره من أفراد ذات المجموعة الإنسانية، كما ظهرت تقاليد لتنظيم العلاقات في المجتمعات الإنسانية في مجالات من حياة الأفراد والجماعات، وأخذت السلطة على عاتقها تطبيق التقاليد المتعارف عليها. وهكذا سجلت في نهاية هذا العصر عند أصحاب هذا الاتجاه بداية المجتمعات المنظمة. وهناك من يضع عصرًا آخر سماه بالعصر المعدني المشتق من أكتشاف الإنسان المعادن بشكل أوسع بل والتفنن في استعمالها وخلطها مع بعضها.
وفي هذا العصر أكتشف الإنسان النحاس والذهب والفضة وتمكن من خلط النحاس مع الصفر لتكوين البرونز. وجاء بعد ذلك أكتشاف الحديد ليزيد في سلطان القوة ويستخدم في ميادين القتال والحروب ويمهد لقيام الامبراطوريات القديمة. وأتسم هذا الزمن بظهور النشاط التجاري والصناعي، فتأسست المصانع ونشط التبادل التجاري بين الشعوب. وقد اطلق البعض على هذه الفترة عصر المدنية نظرًا لظهور الصياغة والفن ولجوء الانسان الى تحويل المواد الأولية إلى اشياء صناعية مستعينا في ذلك بوسائل صناعية من تخيله وفكره, وبجانب ذلك إعتمد الإنسان في حياته على التجارة وفيه اهتدى الإنسان إلى الكتابة. وكان أول تأثير للزراعة في حياة الإنسان أنها حولته من صياد إلى زارع، فهجر حياة التنقل وبنى البيوت من التراب والطين والحجارة وجذوع الأشجار واغصانها. ولما استقر الإنسان صارت الحيوانات تقترب من مكان سكنه لتأكل فضلات طعامه أو لترعى في مزارعه، فألفه بعضها وتدجن كالغنم والماعز والبقر وبتدجين هذه الحيوانات أصبح الإنسان راعيًا ومزارعًا, وأمن له هذان العملان مأكله وملبسه على أفضل وجه. وأدرك الإنسان عندها أهمية وفائدة التعاون مع الآخرين، فبنى البيوت متجاورة فنشأت منها القرى. إن هذا التطور حمل الانسان على تحسين اسلحته وأدواته، فصنع المناشير والسكاكين والخناجر من الصووان, والدبابيس من العظم. وكان يحرث الأرض بأغصان الأشجار وعظام الحيونات وقرونها وبالمعاول الصوانية. وما لبث أن اخترع الغزل والنسيج ونجح في صنع الثياب من الصوف والكتان، ولكن الجلد بقي اكثر استعمالا لمدة طويلة, وتمكن بعد فترة من أكتشاف الوسائل لدق الحبوب وإحالتها إلى طحين يصنع منه الخبز والطعام، ثم تعلم كيف يصنع الزوارق بتجويف جذوع الأشجار الضخمة، وكيف يصنع الخزف من الطين المفخور ويعمل منه الصحون والجرار والقدور والأواني الخزفية الأخرى. ومنذ حوالي (6000 سنة) اخترع الإنسان الكتابة وبدأ يدون افكاره وكلماته بصور أو رموز أو حروف. وبهذا الحدث العظيم تأتي عصور ما قبل التاريخ إلى نهايتها ويبتدئ العصر التاريخي الذي يعتمد على الكلمة المدونة.
* النظريات التي قيلت في تكوين المجتمع البشري
لكي نعرف كيفية نشوء أول البوادر القانونية التي يمكن تسميتها بالمظاهر القانونية أو التنظيمية الأولى لدى الإنسان، لابد أن نستعرض النظريات المختلفة التي قيلت في تكوين الخلية الإجتماعية الأولى، وما تلا ذلك من تطورات في علاقة الإنسان بأخيه أو بالمجموعة التي هو فيها. وسننهي موضوعنا بترجيح النظرية التي نراها مع بيان الأسباب.
اولاً : نظرية القبيلة :-
يذهب علماء الاجتماع وفي طليعتهم العالم ماك لينان إلى ان أساس المجتمع البدائي هو القبيلة وليس الاسرة المؤلفة من الاب والام والأولاد, وعلى هذا الأساس فأن اول جماعة إنسانية كانت مكونة من افراد لاتجمعهم صلة القرابة وانما جمعتهم الصدفة والحاجة الى دفع الاخطار المحدقة بهم. والتعاون في الحصول على القوت من خلال قنص حيوانات وصد خطر والكواسر منها.
ونظرا لقلة الغذاء وصعوبة الحصول عليه، عمدت القبيلة إلى تربية الذكور واعدادهم لتحمل المخاطر والمشاق، وفي المقابل قتل البنات للتخلص من عبء وجودهم كعناصر مستهلکه ليس إلا. وهذا ما أدى إلى ندرة النساء واشتراك الرجال بامراة واحدة وبذلك ظهر مبدا تعدد الأزواج. وأدت قلة النساء إلى أن قامت الجماعات الأولى بخطفهن، مما أدى إلى تنقلهن من جماعة إلى أخرى. ونتج عن هذه الإباحية الجنسية أن اعتبرت الصلة بالام هي صلة النسب الوحيدة المؤكدة.
فكان بذلك نظام الأسرة الأمية، وهي الأسرة المكونة من الأم والأولاد، وعلى هذا كان الولد في الأسرة ينسب إلى أمه، ولم يكن انتساب الولد الى امه يعني قيام سلطة لها في الأسرة وإنما كان وسيلة إثبات بنوة الولد لمن نسل منها. ثم تطور الأمر بعد ذلك عندما أضحی ازواج المرأة كلهم من الأخوة، وأخذ الأولاد منها ينسبون إلى هؤلاء، فكل أب والد لكل ولد، ثم نسب الأولاد الى الأخ الأكبر بما أصبح له من سلطة على اخوته. وانتهى الأمر الى ان يستقل الأخ الأكبر بالمرأة لتصبح زوجته بعد أن تمكن كل من الأخوة الحصول على امرأة لا يشاركه فيها أحد، وأخذ الأولاد ينسبون إلى آبائهم، وانضم الجميع تحت لواء الأخ الأكبر الذي أصبح رئيس الأسرة المصرف لأمورها، وهكذا تحولت الجماعة من النظام الأمي إلى النظام الأبوي وبرزت فيه الأسرة مع السلطة الأبوية ويدلل أصحاب هذه النظرية على صحة رأيهم بان الجماعات البشرية في أوائل عهدها كانت في حالة إباحية، وأن عصرالزواج الفردي سبقه في التاريخ الإنسانی نظام زواج الجماعة كذلك فإن الأسرة التي قام معها النظام الأبوي إنما هي مرحلة حديثة متطورة بالنسبة لمراحل سبقتها.
إن هذه النظرية تجعل الإنسان أقل تقدما في حياته الإجتماعية من بعض اصناف الحيوانات، وهي تقوم ولاشك على الافتراض ولا سند لها من الوقائع التاريخية، وإذا كانت هذه النظرية تعتمد على حالة الإباحية الجنسية السائدة لدى بعض جماعات الزنوج في افريقيا، فإننا نجد بعض القبائل المعروفة بالهمجية، ومنها الأقزام في أواسط افريقيا. لا تعرف إلا نظام الزواج الفردي والسلطة الأبوية. كذلك فإن حالة الحرية الشخصية التي تسود في أيامنا هذه في بعض مناطق العالم وما قد ينجم عنها من صور الإباحية الجنسية، لا يمكن أن تكون أساسًا لبناء نظرية توصف ملامح هذا العقد الذي لا زالت فيه غالبية بقاع الأرض تعتمد نظامًا إجتماعيًا رصينًا ينسجم مع طبيعة الإنسان كأفضل مخلوق وعلى هذا الأساس فإن هذه النظرية لا تمثل في رأي الكثير من الباحثين المرحلة الأولى التي مرت بها البشرية، وتعميمها على علاقات الإنسان الأولى أمر ليس له ما يبرره.
وهناك إتجاه آخر يذهب إلى أن القبيلة ظهرت في مرحلة متأخرة، جراء تكاثر العشائر الطوطمية وتوالدها وتجمعها في بقعة جغرافية محددة، ومن الصعب تحديد تاريخ معين لبدء العصر القبلي، ولكن ما يمكن تأكيده (وفقًا لهذا الرأي). إن القبائل استقرت في بعض المناطق فنشأت بين أفرادها علاقات متداخلة ومتشابكة أسفرت عن قيام منازعات و مشكلات. وقد أستوجب ذلك قيام حكم من بين أفراد القبيلة (قد يكون رئيسها) قادر على الفصل في الخلافات والمنازعات وإصدار الأوامر والنواهي وتنفيذ العقوبات بحق من يخرج على القواعد والأعراف السائدة، وهكذا ظهرت السلطة التي تسهر على تنظيم مختلف العلاقات بين أفراد القبيلة وفقا لهذا الرأي.
إن الإتجاه الأخير يضع القبيلة في مراحل تالية لظهور الأسرة والعشيرة الطوطمية ،تعني كلمة طوطم بالمدينه، ولذلك أعطيت ما اشرنا إليه من مركز تنظيمي متقدم.
ثانيًا : نظرية العشيرة الطوطمية :-
أعتبر مجموعة من علماء الإجتماع ان الخلية الإجتماعية الأولى التي تعد أصل نشاة المجتمع المنظم، هي ما يطلق عليه العشيرة الطوطميه أو ما يسميه بعض الأساتذة (العشيرة التوتمية) العشيرة الطوطمية تتكون من مجموعة من الأفراد، لا تربط بينهم وحدة الأصل أو الدم، كما هو الحال في الأسرة والقبيلة، وأنما تربط بينهم صلة روحية تقوم على أساس خرافي، هو إعتقادهم بأنهم ينتمون جميعًا إلى طوطم مقدس والطوطم هو حيوان أو نبات أو جماد ترى العشيرة فيه مثلها الأعلى ورابطة قرباها وعلة وجودها، وتحيطه بهالة من القدسية فتقيم له الطقوس وتتوجه إليه بالشفاعات والحيوان الطوطم قد يكون من الحيوانات المفترسة كالذئب والثعلب والدب أو مسالم كالسمكة والحمامة والغراب، وتؤله الجماعة طوطمها وتقيم له الاحتفالات الدينية في أوقات معلومة، وهو شعارها توشم به اجسادها، وتنقش صورته على أدواتها المنزلية وأسلحتها، وتحمل رايته في حروبها، وتعتبره مصدرًا لما ترجوه من خير وحامية يدفع عنها كل شر، وعلى ذلك فإن الرابطة بين أفراد الجماعة الطوطمية لا تقوم على صلة الدم بل تقوم على عقيدة الإنحدار طوطم واحد. والعقيدة الغالبة في الطوطمية هي تحريم الزواج بين الأفراد الذين ينتسبون إلى طوطم واحد، ومن ثم فالزواج أنما يكون من خارج الجماعة، أما في داخل الجماعة فالأولاد أخوة وكل امراة في الجماعة تدعى أمًا وكل رجل فيها يدعی أبًا، مما دعا بعض العلماء أن يستدل من تلك من ذلك أن الزواج في العشيرة الطوطمية كان جماعيا يشيع فيه الاختلاط الجنسي. وفي هذا يلتقي مع اصحاب نظرية القبيلة في أن الأسرة حالة متطورة من حالات ادنی سبقتها. ويدلل أصحاب هذه النظرية بما عثر عليه من الأواني التي كانت تحمل شارات لحيوان أو نبات ومن تقديس الشعوب القديمة لبعض الحيوانات مثال ذلك تقديس المصريين للعجل والثعبان، وان الحمامة والسمكة كانت رمزًا في العقيدة المسيحية إبان نشوئها، ويذهب آخرون إلى حجة أخرى ألا وهي أتخاذ العرب اسماء كثيرة من الحيوانات وتسمية قبائلهم وأبنائهم بها ويعتقد البعض بان هذه النظرية تتفق مع الحقيقة فلم يكن أساس الأسرة القديمة هو المولد، بدليل أن الأخت لم تكن في الأسرة في مقام الأخ والابن المحرر أو البنت المتزوجة لم تعد اطلاقًا جزء من الأسرة. فالأسرة القديمة هي رابطة دينية اكثر منها رابطة طبيعية، فالأبن لا يعد من الأسرة إذا تخلى عن العبادة أو تحرر، بينما المتبنى يصبح ابنًا حقيقيًا فيها لأنه إذا لم يكن حائزًا على رابطة الدم فسيكون مشاركًا في العبادة، فالقرابة والميراث والوصية تنظمه المساهمة في العبادة التي أمرت به الديانة، ألا وهي الإشتراك في عبادة طوطم، الجماعة, وقد تعرضت هذه النظرية للنقد كسابقتها نظرًا لأنها غير مبنية على حقائق علمية. وانما بنيت هي الأخرى على التصور والافتراض، كذلك فإن هذه النظرية لا تختلف عن نظرية القبيلة إلا في أساسها الديني، بينما تشابهت معه في أستنتاجات هامة يقف في طليعتها الأختلاط الجنسي والاباحية, التي لا يستطيع الكثير من الباحثين التسليم به في كلا النظريتين المتقدمتين، لما في ذلك من مجافاة لطبيعة الإنسان وخصائصه باعتباره أفضل المخلوقات وعلى هذا فلا يمكن قبول الطوطمية كنقطة بداية في نشوء المجتمع البشري.
ثالثًا : نظرية الاسرة :-
يعتقد أصحاب هذه النظرية بأن الأسرة المكونة من الأب والأم والأولاد تعد أول خلية إجتماعية في تطور البشرية، وأن أولى القواعد التي تناولت التنظيم الإجتماعي في هذه الخلية إلى جانب القواعد الخاصة بالسلوك الفردي، هي القواعد التي تحكم الزواج وترتب على ذلك تحديد المحرمات من النساء، بعدما تكاثرت الأسرة الأولى وأصبح هناك رجالا ونساء، لمنع اختلاط نسب الأطفال، كذلك فإن الأب في هذه الخلية هو صاحب الامر فيهم والمتصرف في شؤونهم وقد اتسعت الأسرة فتفرع عنها أسر عديدة ، ومن تعدد هذه الأسر نشأت العشيرة، ومن تعدد العشائر نشأت القبيلة وبعد حياة طويلة من الرحيل والتنقل استقرت القبائل فوق أرض معينة وتميزت بخصائص محددة. ثم أخذت بالنمو والتكاثر والتنظيم فنشأت منها المدينة التي تحولت فيما بعد عند ظهور عدة مدن إلى دولة وعلى هذا فإن اساس الدولة، حسب هذه النظرية، هي الأسرة.
أن هذا الرأي يتفق مع ما ذهب إليه أرسطو، من أن الأسرة كانت مصدر الدولة والأساس الأول في تكوينها، وبني هذا الرأي على أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده، وأن اتحاد الجنسين ضروري لاستمرار البشرية وأن هذا الاتحاد يتطلب نظامًا تقوم عليه علاقة الزوج بزوجته والأب باولاده والسيد باتباعه وأرقائه كذلك فإن هذا الإتجاه يأتي مصداقًا لما نجده الآن في بعض مجاهل افريقيا وبعض المناطق الأخرى من الكرة الأرضية، من مجموعات بشرية، تعيش كما كانت إلى اليوم منذ آلاف السنين في حالة بعيدة عن الرقي الإنساني، الذي يتجلى في القسم الأكبر من المعمورة، مع التأكيد على أن الإنسان في هذه المجتمعات المتخلفة التي تشبه إلى حد بعيد تلك المجتمعات التي عاشت حتى بداية ظهور القواعد المنظمة المكتوبة، لا يمكن أن يجانب الفطرة الإنسانية في علاقته الأبوية والأخوية والإجتماعية ، وان القول بعكس ذلك يعني التنكر البالغ للقيم الإنسانية والمنطق والعقل وأصول البحث العلمي . إننا نؤيد هذه النظرية نظرا لاتفاقها مع ما جاء في الشريعة الإسلامية الغراء، التي بينت لنا بوضوح أصل الخليقة وكيفية نشوئها، وبذلك نبتعد عن الدراسات التخمينية المبنية على الافتراض. وقد بين لنا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه ذلك بقوله جلت قدرته (یا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير)، وقوله تعالى (وإنه خلق الزوجين الذكر والانثی). كذلك فإن ما وضعته النظريات الأخرى من تصورات لحالة الإنسان البدائية لا تنسجم مع المنزلة المعروفة التي أعطاها الله سبحانه للإنسان، وما حباه من عطف ومودة من أجل التناسل والرحمة بين أفراد الأسرة الواحدة، عكس ما ذهبت اليه بعض النظريات من نفي للعاطفة لدى الإنسان، ويدل على ذلك قوله تعالى (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا) وقوله تعالى (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن). كذلك فإن الله تعالى خلق هذا الكائن في أحسن صورة وأبهي منظر (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، وعلمه ما لم يعلم ( علم الإنسان مالم يعلم )، وازاء هذا هل يعقل أن يعيش الإنسان حتى في مراحله الأولى عيش الهمجي المتوحش الذي لا يمتلك أي قيمة انسانية ؟ إن ما وصف به الإنسان من قسوة هو أكثر بكثير مما لدى غالبية الحيوانات المفترسة، إننا نشك في تلك الطروحات التي لا تعدو أن تكون كما قلنا مجموعة من الأفتراضات والتصورات ليس إلا. أما بالنسبة للأسرة الأبوية وكونها أول خلية في المجتمع البشري، فيبين لنا القرآن الكريم أن ذرية الجماعة الإنسانية الأولى تدعى بني آدم أي تنسب إلى الأب، وهو ما يؤكد أن الإنسان عاش نظام الأسرة الأبوية، وأن هذا النظام هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ولنتأمل الآيات التي يروي لنا فيها القران الكريم ما حدث بين قابيل وهابيل ولدي آدم، حيث يقول الله سبحانه (وأتل عليهم نبأ أبني آدم بالحق إذ قریا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لاقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين) فهذه الآية صريحة في أن قابيل وهابيل ينسبان إلى آدم، وأن الأسرة الأبوية كانت هي النواة الأولى للمجتمع، بعد أن عرف الإنسان نظام الزواج منذ اللحظة الأول لاستقراره على الأرض، حيث تؤكد الأديان السماوية في ملتها أن الوجود الإنساني قد بدأ بإجتماع آدم وحواء وأن أولادهم نسبوا لآدم و من نسل آدم وذريته تكونت الجماعات القديمة.
* النظريات التي قيلت في تكوين المجتمع البشري
لكي نعرف كيفية نشوء أول البوادر القانونية التي يمكن تسميتها بالمظاهر القانونية أو التنظيمية الأولى لدى الإنسان، لابد أن نستعرض النظريات المختلفة التي قيلت في تكوين الخلية الإجتماعية الأولى، وما تلا ذلك من تطورات في علاقة الإنسان بأخيه أو بالمجموعة التي هو فيها. وسننهي موضوعنا بترجيح النظرية التي نراها مع بيان الأسباب.
اولاً : نظرية القبيلة :-
يذهب علماء الاجتماع وفي طليعتهم العالم ماك لينان إلى ان أساس المجتمع البدائي هو القبيلة وليس الاسرة المؤلفة من الاب والام والأولاد, وعلى هذا الأساس فأن اول جماعة إنسانية كانت مكونة من افراد لاتجمعهم صلة القرابة وانما جمعتهم الصدفة والحاجة الى دفع الاخطار المحدقة بهم. والتعاون في الحصول على القوت من خلال قنص حيوانات وصد خطر والكواسر منها.
ونظرا لقلة الغذاء وصعوبة الحصول عليه، عمدت القبيلة إلى تربية الذكور واعدادهم لتحمل المخاطر والمشاق، وفي المقابل قتل البنات للتخلص من عبء وجودهم كعناصر مستهلکه ليس إلا. وهذا ما أدى إلى ندرة النساء واشتراك الرجال بامراة واحدة وبذلك ظهر مبدا تعدد الأزواج. وأدت قلة النساء إلى أن قامت الجماعات الأولى بخطفهن، مما أدى إلى تنقلهن من جماعة إلى أخرى. ونتج عن هذه الإباحية الجنسية أن اعتبرت الصلة بالام هي صلة النسب الوحيدة المؤكدة.
فكان بذلك نظام الأسرة الأمية، وهي الأسرة المكونة من الأم والأولاد، وعلى هذا كان الولد في الأسرة ينسب إلى أمه، ولم يكن انتساب الولد الى امه يعني قيام سلطة لها في الأسرة وإنما كان وسيلة إثبات بنوة الولد لمن نسل منها. ثم تطور الأمر بعد ذلك عندما أضحی ازواج المرأة كلهم من الأخوة، وأخذ الأولاد منها ينسبون إلى هؤلاء، فكل أب والد لكل ولد، ثم نسب الأولاد الى الأخ الأكبر بما أصبح له من سلطة على اخوته. وانتهى الأمر الى ان يستقل الأخ الأكبر بالمرأة لتصبح زوجته بعد أن تمكن كل من الأخوة الحصول على امرأة لا يشاركه فيها أحد، وأخذ الأولاد ينسبون إلى آبائهم، وانضم الجميع تحت لواء الأخ الأكبر الذي أصبح رئيس الأسرة المصرف لأمورها، وهكذا تحولت الجماعة من النظام الأمي إلى النظام الأبوي وبرزت فيه الأسرة مع السلطة الأبوية ويدلل أصحاب هذه النظرية على صحة رأيهم بان الجماعات البشرية في أوائل عهدها كانت في حالة إباحية، وأن عصرالزواج الفردي سبقه في التاريخ الإنسانی نظام زواج الجماعة كذلك فإن الأسرة التي قام معها النظام الأبوي إنما هي مرحلة حديثة متطورة بالنسبة لمراحل سبقتها.
إن هذه النظرية تجعل الإنسان أقل تقدما في حياته الإجتماعية من بعض اصناف الحيوانات، وهي تقوم ولاشك على الافتراض ولا سند لها من الوقائع التاريخية، وإذا كانت هذه النظرية تعتمد على حالة الإباحية الجنسية السائدة لدى بعض جماعات الزنوج في افريقيا، فإننا نجد بعض القبائل المعروفة بالهمجية، ومنها الأقزام في أواسط افريقيا. لا تعرف إلا نظام الزواج الفردي والسلطة الأبوية. كذلك فإن حالة الحرية الشخصية التي تسود في أيامنا هذه في بعض مناطق العالم وما قد ينجم عنها من صور الإباحية الجنسية، لا يمكن أن تكون أساسًا لبناء نظرية توصف ملامح هذا العقد الذي لا زالت فيه غالبية بقاع الأرض تعتمد نظامًا إجتماعيًا رصينًا ينسجم مع طبيعة الإنسان كأفضل مخلوق وعلى هذا الأساس فإن هذه النظرية لا تمثل في رأي الكثير من الباحثين المرحلة الأولى التي مرت بها البشرية، وتعميمها على علاقات الإنسان الأولى أمر ليس له ما يبرره.
وهناك إتجاه آخر يذهب إلى أن القبيلة ظهرت في مرحلة متأخرة، جراء تكاثر العشائر الطوطمية وتوالدها وتجمعها في بقعة جغرافية محددة، ومن الصعب تحديد تاريخ معين لبدء العصر القبلي، ولكن ما يمكن تأكيده (وفقًا لهذا الرأي). إن القبائل استقرت في بعض المناطق فنشأت بين أفرادها علاقات متداخلة ومتشابكة أسفرت عن قيام منازعات و مشكلات. وقد أستوجب ذلك قيام حكم من بين أفراد القبيلة (قد يكون رئيسها) قادر على الفصل في الخلافات والمنازعات وإصدار الأوامر والنواهي وتنفيذ العقوبات بحق من يخرج على القواعد والأعراف السائدة، وهكذا ظهرت السلطة التي تسهر على تنظيم مختلف العلاقات بين أفراد القبيلة وفقا لهذا الرأي.
إن الإتجاه الأخير يضع القبيلة في مراحل تالية لظهور الأسرة والعشيرة الطوطمية ،تعني كلمة طوطم بالمدينه، ولذلك أعطيت ما اشرنا إليه من مركز تنظيمي متقدم.
ثانيًا : نظرية العشيرة الطوطمية :-
أعتبر مجموعة من علماء الإجتماع ان الخلية الإجتماعية الأولى التي تعد أصل نشاة المجتمع المنظم، هي ما يطلق عليه العشيرة الطوطميه أو ما يسميه بعض الأساتذة (العشيرة التوتمية) العشيرة الطوطمية تتكون من مجموعة من الأفراد، لا تربط بينهم وحدة الأصل أو الدم، كما هو الحال في الأسرة والقبيلة، وأنما تربط بينهم صلة روحية تقوم على أساس خرافي، هو إعتقادهم بأنهم ينتمون جميعًا إلى طوطم مقدس والطوطم هو حيوان أو نبات أو جماد ترى العشيرة فيه مثلها الأعلى ورابطة قرباها وعلة وجودها، وتحيطه بهالة من القدسية فتقيم له الطقوس وتتوجه إليه بالشفاعات والحيوان الطوطم قد يكون من الحيوانات المفترسة كالذئب والثعلب والدب أو مسالم كالسمكة والحمامة والغراب، وتؤله الجماعة طوطمها وتقيم له الاحتفالات الدينية في أوقات معلومة، وهو شعارها توشم به اجسادها، وتنقش صورته على أدواتها المنزلية وأسلحتها، وتحمل رايته في حروبها، وتعتبره مصدرًا لما ترجوه من خير وحامية يدفع عنها كل شر، وعلى ذلك فإن الرابطة بين أفراد الجماعة الطوطمية لا تقوم على صلة الدم بل تقوم على عقيدة الإنحدار طوطم واحد. والعقيدة الغالبة في الطوطمية هي تحريم الزواج بين الأفراد الذين ينتسبون إلى طوطم واحد، ومن ثم فالزواج أنما يكون من خارج الجماعة، أما في داخل الجماعة فالأولاد أخوة وكل امراة في الجماعة تدعى أمًا وكل رجل فيها يدعی أبًا، مما دعا بعض العلماء أن يستدل من تلك من ذلك أن الزواج في العشيرة الطوطمية كان جماعيا يشيع فيه الاختلاط الجنسي. وفي هذا يلتقي مع اصحاب نظرية القبيلة في أن الأسرة حالة متطورة من حالات ادنی سبقتها. ويدلل أصحاب هذه النظرية بما عثر عليه من الأواني التي كانت تحمل شارات لحيوان أو نبات ومن تقديس الشعوب القديمة لبعض الحيوانات مثال ذلك تقديس المصريين للعجل والثعبان، وان الحمامة والسمكة كانت رمزًا في العقيدة المسيحية إبان نشوئها، ويذهب آخرون إلى حجة أخرى ألا وهي أتخاذ العرب اسماء كثيرة من الحيوانات وتسمية قبائلهم وأبنائهم بها ويعتقد البعض بان هذه النظرية تتفق مع الحقيقة فلم يكن أساس الأسرة القديمة هو المولد، بدليل أن الأخت لم تكن في الأسرة في مقام الأخ والابن المحرر أو البنت المتزوجة لم تعد اطلاقًا جزء من الأسرة. فالأسرة القديمة هي رابطة دينية اكثر منها رابطة طبيعية، فالأبن لا يعد من الأسرة إذا تخلى عن العبادة أو تحرر، بينما المتبنى يصبح ابنًا حقيقيًا فيها لأنه إذا لم يكن حائزًا على رابطة الدم فسيكون مشاركًا في العبادة، فالقرابة والميراث والوصية تنظمه المساهمة في العبادة التي أمرت به الديانة، ألا وهي الإشتراك في عبادة طوطم، الجماعة, وقد تعرضت هذه النظرية للنقد كسابقتها نظرًا لأنها غير مبنية على حقائق علمية. وانما بنيت هي الأخرى على التصور والافتراض، كذلك فإن هذه النظرية لا تختلف عن نظرية القبيلة إلا في أساسها الديني، بينما تشابهت معه في أستنتاجات هامة يقف في طليعتها الأختلاط الجنسي والاباحية, التي لا يستطيع الكثير من الباحثين التسليم به في كلا النظريتين المتقدمتين، لما في ذلك من مجافاة لطبيعة الإنسان وخصائصه باعتباره أفضل المخلوقات وعلى هذا فلا يمكن قبول الطوطمية كنقطة بداية في نشوء المجتمع البشري.
ثالثًا : نظرية الاسرة :-
يعتقد أصحاب هذه النظرية بأن الأسرة المكونة من الأب والأم والأولاد تعد أول خلية إجتماعية في تطور البشرية، وأن أولى القواعد التي تناولت التنظيم الإجتماعي في هذه الخلية إلى جانب القواعد الخاصة بالسلوك الفردي، هي القواعد التي تحكم الزواج وترتب على ذلك تحديد المحرمات من النساء، بعدما تكاثرت الأسرة الأولى وأصبح هناك رجالا ونساء، لمنع اختلاط نسب الأطفال، كذلك فإن الأب في هذه الخلية هو صاحب الامر فيهم والمتصرف في شؤونهم وقد اتسعت الأسرة فتفرع عنها أسر عديدة ، ومن تعدد هذه الأسر نشأت العشيرة، ومن تعدد العشائر نشأت القبيلة وبعد حياة طويلة من الرحيل والتنقل استقرت القبائل فوق أرض معينة وتميزت بخصائص محددة. ثم أخذت بالنمو والتكاثر والتنظيم فنشأت منها المدينة التي تحولت فيما بعد عند ظهور عدة مدن إلى دولة وعلى هذا فإن اساس الدولة، حسب هذه النظرية، هي الأسرة.
أن هذا الرأي يتفق مع ما ذهب إليه أرسطو، من أن الأسرة كانت مصدر الدولة والأساس الأول في تكوينها، وبني هذا الرأي على أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده، وأن اتحاد الجنسين ضروري لاستمرار البشرية وأن هذا الاتحاد يتطلب نظامًا تقوم عليه علاقة الزوج بزوجته والأب باولاده والسيد باتباعه وأرقائه كذلك فإن هذا الإتجاه يأتي مصداقًا لما نجده الآن في بعض مجاهل افريقيا وبعض المناطق الأخرى من الكرة الأرضية، من مجموعات بشرية، تعيش كما كانت إلى اليوم منذ آلاف السنين في حالة بعيدة عن الرقي الإنساني، الذي يتجلى في القسم الأكبر من المعمورة، مع التأكيد على أن الإنسان في هذه المجتمعات المتخلفة التي تشبه إلى حد بعيد تلك المجتمعات التي عاشت حتى بداية ظهور القواعد المنظمة المكتوبة، لا يمكن أن يجانب الفطرة الإنسانية في علاقته الأبوية والأخوية والإجتماعية ، وان القول بعكس ذلك يعني التنكر البالغ للقيم الإنسانية والمنطق والعقل وأصول البحث العلمي . إننا نؤيد هذه النظرية نظرا لاتفاقها مع ما جاء في الشريعة الإسلامية الغراء، التي بينت لنا بوضوح أصل الخليقة وكيفية نشوئها، وبذلك نبتعد عن الدراسات التخمينية المبنية على الافتراض. وقد بين لنا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه ذلك بقوله جلت قدرته (یا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير)، وقوله تعالى (وإنه خلق الزوجين الذكر والانثی). كذلك فإن ما وضعته النظريات الأخرى من تصورات لحالة الإنسان البدائية لا تنسجم مع المنزلة المعروفة التي أعطاها الله سبحانه للإنسان، وما حباه من عطف ومودة من أجل التناسل والرحمة بين أفراد الأسرة الواحدة، عكس ما ذهبت اليه بعض النظريات من نفي للعاطفة لدى الإنسان، ويدل على ذلك قوله تعالى (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا) وقوله تعالى (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن). كذلك فإن الله تعالى خلق هذا الكائن في أحسن صورة وأبهي منظر (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، وعلمه ما لم يعلم ( علم الإنسان مالم يعلم )، وازاء هذا هل يعقل أن يعيش الإنسان حتى في مراحله الأولى عيش الهمجي المتوحش الذي لا يمتلك أي قيمة انسانية ؟ إن ما وصف به الإنسان من قسوة هو أكثر بكثير مما لدى غالبية الحيوانات المفترسة، إننا نشك في تلك الطروحات التي لا تعدو أن تكون كما قلنا مجموعة من الأفتراضات والتصورات ليس إلا. أما بالنسبة للأسرة الأبوية وكونها أول خلية في المجتمع البشري، فيبين لنا القرآن الكريم أن ذرية الجماعة الإنسانية الأولى تدعى بني آدم أي تنسب إلى الأب، وهو ما يؤكد أن الإنسان عاش نظام الأسرة الأبوية، وأن هذا النظام هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ولنتأمل الآيات التي يروي لنا فيها القران الكريم ما حدث بين قابيل وهابيل ولدي آدم، حيث يقول الله سبحانه (وأتل عليهم نبأ أبني آدم بالحق إذ قریا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لاقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين) فهذه الآية صريحة في أن قابيل وهابيل ينسبان إلى آدم، وأن الأسرة الأبوية كانت هي النواة الأولى للمجتمع، بعد أن عرف الإنسان نظام الزواج منذ اللحظة الأول لاستقراره على الأرض، حيث تؤكد الأديان السماوية في ملتها أن الوجود الإنساني قد بدأ بإجتماع آدم وحواء وأن أولادهم نسبوا لآدم و من نسل آدم وذريته تكونت الجماعات القديمة.
ينظر : كتاب تاريخ القانون, تأليف الدكتور صاحب عبيد الفتلاوي, مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع, عمان, الطبعة الأولى سنة 1998, الصفحات (12-25)